هاروكي موراكامي، رحلة مع أسلوبي الأدبي المفضل

بدأت قراءة روايات هاروكي موراكامي -بنية قراءة كافة روايات هاروكي موراكامي- قبل سنة تقريباً. ولكن أذكر أنني بدأت بـ 1Q84 قبل سنتين وأخطأت في بدايتها بقراءة الجزء الثاني بدلاً من الجزء الأول، وعلى الرغم من إعجابي بكون الجزء الثاني مفهوماً وممتعاً حتى بعد تخطي الجزء الأول بالكامل، إلا أن نية قراءة كافة أعماله لم تأت سوى بعد نقاش مع بعض الأصدقاء عن الروايات اليابانية وأيها عليّ البدء فيه إن كان هدفي هو الاستمتاع فحسب.

موراكامي كان الترجيح الأول – والرواية الأولى التي بدأت فيها بحسب ما أذكر كانت “نعاس”.

نعاس: رواية قصيرة أفسدتها اللغة التركية عليّ

نعاس غير متوفرة باللغة الإنجليزية، ولا سبيل لشراءها بالعربية بسعر معقول في تركيا. لذا كان الخيار الأفضل هو شراءها وقراءتها باللغة التركية – أعلم أنه بإمكاني قرصنتها وتحميلها PDF وتخطي الأمر كله، ولكن منذ قدومي لتركيا لم أقرصن كتاباً للاستخدام الشخصي قط ولم أرد أن أبدأ القرصنة بكتاب أعلم أنه جيد وممتع، ولأن القراءة بالتركية ستعود عليّ بالنفع حتماً، قررت شراءها مطبوعة.

لغتي التركية كافية لقراءة النصوص الأدبية القصيرة، وبحكم دراستي في الجامعة لسنة تقريباً حينها ودراستي للغة التركية في معهد يشجع على قراءة النصوص الأدبية لتعلم اللغة، كنت واثقاً بأن التجربة لن تكون سيئة جداً، ربما سأتعلم القليل من المصطلحات الجديدة، ربما أتعلم بناء الجمل بطريقة أدبية حديثة، ربما أطّلع على أساليب الترجمة المتّبعة باللغة التركية.

حسناً… توقعاتي كانت عالية جداً.

أسلوب هاروكي موراكامي في اللعب على الكلمات من الصعب نقله للغة أخرى، في الترجمات الإنجليزية لرواياته الأخرى يمكنك رؤية معاناة المترجم في توطين العبارات بطرقة لا تفقدها معانيها المزدوجة، ولا تحوّلها إلى نصوص طويلة تدمّر الشعور “السريع” الذي تتميز به بعض المشاهد. ولكن في الإنجليزية هذا الجهد يقابل بالنجاح غالباً.

المشكلة باللغة التركية أن ربط الكلمات ضمن الجملة الواحدة يحتاج للإضافات في نهاية الكلمة، كلما طالت الجملة كلما زاد عدد الإضافات التي يجب أن تلحقها بكل كلمة، هذا وأن تركيب الجمل بالتركية يحتاج في كثير من الأحيان وضع الكلمة الحاسمة في فهم معنى الجملة في نهايتها، كالنفي على سبيل المثال أو الفعل إن كانت الجملة فعليّة. هذا يعني اختفاء الأسلوب السلس والديناميكي للحوارات والأوصاف التي يتميز بها موراكامي.

ويعني أيضاً أن قراءة الرواية ستستهلك وقتاً أكبر من الروايات الأخرى التي قرأتها لموراكامي على الرغم من كونها أقصرهنّ.

بأي حال، المعاناة اللغوية ليست الأمر الوحيد الذي لم يعجبني في هذه الرواية، فهي ربما الرواية الوحيدة التي حاول موراكامي فيها تقديم “نهاية” إن صحت التسمية، ولو كانت هذه النهاية مفتوحة في معايير بقية الكتاب، إلا أنها مغلقة جداً بمعايير موراكامي.

فن النهايات المفتوحة

لا أنصح بالبداية مع نعاس على الإطلاق، فنهايتها تفتقد جزءً كبيراً من روعة ما يكتبه موراكامي – النهايات المفتوحة المثالية التي تضع القارئ بين الاستغراب والرضى بما يتلائم مع أسلوبه العجائبيّ. الرواية نفسها ليست سيئة على الإطلاق، وهي أحد أشهر روايات موراكامي وتستحق هذه الشهرة، ولكن لا يمكن اعتبارها مثالاً “مثالياً” عن أعماله – بسبب النهاية.

في الحقيقة، نعاس تضعك داخل حياة الشخصية الرئيسية، وتغرقك بأجواء حياتها وتفاصيل حركاتها، ومحدودية الشخصيات الموجودة في هذه القصة تضعها في خانة الروايات المناسبة لدراسة الشخصيات بامتياز. الأحداث الغريبة ومرض السهر الذي يجعلها عاجزة عن النوم دون تأثير على حياتها مجرد أداة لإظهار أفكار هذه الشخصية – في محاولة للاعتراض على مفهوم “الحياة الطبيعية” الذي يبحث الكثيرون عنه.

ولكن، هذا لا يعني أن هذه الأداة ليست مهمة – عنصر الغرابة والخيال والخوف من المجهول الموجود في كل روايات موراكامي هو جزء من “الأجواء” التي تميز أعماله بطريقة إيجابية، القلق من نتيجة كل حدث والإصغاء لكل تفصيل صغير – كونك لا تعلم أيها سيكون الحاسم في القصة – هو ما يجعل رواياته أكثر متعة… هذه الأجواء سأعود لها لاحقاً في المقال ولكنّها لا تكتمل أبداً دون النهاية.

النهايات المفتوحة سلاح ذو حدّين عند الحديث عن الروايات – الاستثمار الذي يضعه القارئ في قراءة ما يزيد عن عشرين ألف كلمة أو خمسين صفحة من الأحداث، من الصعب أن يقابل بنهاية مفتوحة عادةً. على الكاتب أن يقدم للقارئ شيئاً ما… أي شيء… كمكافئة على الوصول للنهاية.

في روايات هاروكي الرحلة هي الأهم، الأحداث التي تجري حتى عند عدم وصولها للنهاية هي المغزى من القصة، وليس الوصول للنهاية. هذا الأسلوب مستخدم بكافة أعماله تقريباً وقد أتقن استخدامه بطريقة توازن بين الراحة والإنزعاج عند القارئ – النهاية المفتوحة تسمح للقارئ بوضع تخمينه الخاص، وتغلق أغلب أطراف الحبكة بما يكفي لتكون القصة متماسكة ولكون القارئ راضياً.

النهاية في نعاس تخلّ بهذا التوازن، فهي لا تغلق خيوط الحبكة بالطريقة المعتادة ولا تساعد في إنهاء الحيرة لدى القارئ، ولكنها في نفس الوقت تقدم “نهاية” للأحداث، ليست نهاية متروكة للقارئ وخياله. نهاية قاطعة يمكن التفكير فيما قبلها بشدة، ولكن ليس فيما بعدها.

وهذا هو السر ربما بالنهايات المفتوحة؛ أنها تترك الأسئلة للأحداث اللاحقة، وليس السابقة.

كافكا على الشاطئ، الأغرب والأشهر ولكنها ليست الأفضل

BY KitsuneBara

كافكا على الشاطئ هي أغرب روايات موراكامي على الإطلاق، من القطط المتكلمة إلى انتقال الوعي والسفر عبر الزمن والانتقال من مكان لآخر آنيّاً وتشوه الذكريات وحتى الموت المفاجئ، والأفضل أنها تركز على شخص عاديّ، مجدداً، شخص يعيش نفس الأحداث المجنونة بنفس الطريقة التي نراها نحن – يراها على أنها أحداث غريب.

الطفل هو الشخصية الرئيسية في هذه الرواية، ولكن التركيز الأكبر على سائق الشاحنة، الشاب الذي لا يمتلك أي هدف فعلي لحياته، ليجد في مساعدة العجوز الغريب ومشاهدة الأحداث التي تجري حوله تغييراً عن الروتين وطريقة يمكنه عبرها امتلاك المعنى لوجوده.

لا تؤثر الأحداث الغريبة على سائق الشاحنة بطريقة تجعله “مجنوناً” أو “مضطرباً” على الإطلاق، على العكس تماماً، التغيّرات في شخصيته تجعله “أفضل” مع كل حدث – على الأقل من ناحية محاولة بحثه عن “شخصيّة” لامتلاكها، بدلاً من أن يكون “ذاك الشخص” دون أي وجه خاص به.

كل شخصيات القصة مميزة، من عامل المكتبة إلى المشرفة عنها وحتى الطفل والعجوز والقطط، يمكن النقاش حتى أن للحجر في القصة “شخصية” خاصة به، وهي خارجة عن المعتاد. ولكن سائق الشاحنة لا “يمتلك” هذه الشخصية، بل يكتسبها شيئاً فشيئاً.

الغرابة في القصة مترافقة بأسلوب موراكامي الحواريّ السلس ووجود شخصيات “مميزة” في كل زوايا القصة، ورمي الشخصية “العادية” بينها لتكون هي القارئ بشكل غير مباشر، وكل التفاصيل التي تجعل من “مشاهد” الرواية قابلة للمعاينة وكأنك تعيشها، كل هذه الأشياء تجعل كافكا على الشاطئ من أشهر وأفضل روايات موراكامي، ولكنها -كافكا على الشاطئ- ترمي ثقلها على الغرابة لدرجة تجعل أساليب موراكامي الأخرى أقل وضوحاً وتأثيراً.

الغرابة أم الضياع؟

أسلوب الروي المزدوج الذي اتبعه موراكامي في كافكا موجود أيضاً في 1Q84 التي بدورها أيضاً تحكي عن شخصيتين مختلفتين، وتربط بين قصصهما في النهاية. ولكن في كافكا يمكن الشعور بأن الأسلوب لا يزال في مراحله التجريبية الأولى، بينما في 1Q84 يمتلك بنية أفضل وأكثر متانة – ففي النهاية بين الروايتين حوالي السبع سنوات تقريباً.

مشاكل البنية الطفيفة تجعل هذه الرواية “ضمن الأفضل” وليست “الأفضل” بالنسبة لي، والتضحية بالأتموسفيريّة المعتادة في قصص موراكامي مقابل هذا الأسلوب الروائي – ولو كان رائعاً – لم يكن مبرراً كافياً للتغاضي عن هذه المشاكل. بالطبع، لا أقول أنها مشاكل ضخمة وتجعل القصة غير قابلة للقراءة – ولكن بالمقارنة مع 1Q84 التي نضج فيها هذا الأسلوب بما يكفي لاستخدامه حتى مع الأجواء الخاصة بالرواية، أرى أن كافكا لا تستحق الشهرة التي اكتسبتها “كأفضل” روايات موراكامي، وليس “كواحدة” من الأفضل.

الأفضل؟ بنظري هي “ما بعد الظلام”.

ما بعد الظلام، أفضل ما يعبّر عن موراكامي.

BY MICHAEL ALLEN

بداية، لا أعتقد أن رأيي “بأفضل رواية لموراكامي” رأي صالح؛ فأنا لم أنته من قراءة أعماله كاملة بعد، ولكن بين الروايات الأربعة التي قرأتها والخامسة التي أقرأها الآن، ما بعد الظلام هي المفضّلة دون منازع. والسبب أنها تتضمن كل ما يعجبني بكتابات موراكامي في مكان واحد.

بداية، يستخدم الكاتب مصطلح “الكاميرا” و”إطار الصورة” ليصف الأماكن بطريقة مفصّلة، ليس فقط الموجود فيها، بل الزاوية التي ينظر منها الراوي، يعطي هذا شعوراً “بصرياً” يبقي المشاهد في الذاكرة بشكل بصري حتى بعد انتهاء الرواية بزمن طويل. التفاصيل التي يضعها الكاتب في وصف البيئة التي تجري فيها الأحداث، والطريقة السلسة التي يستخدمها لفعل ذلك بنفس وقت كتابة الأحداث التي تجري، دون الحاجة لكسر انتباه القارئ عن حدث معين للدخول بالآخر، أو لوصف مكان بطريقة روبوتية قبل استخدامه.

بالإضافة لوصف الأماكن، يبرع موراكامي جداً في وضع الأجواء أو بناء الأتموسفير الخاص بالمشهد، من الموسيقى وحتى الروائح والألوان، وصف الشخصيات المفصل وحركاتهم الدقيقة، الطريقة التي يتكلمون بها، وكل ما تحتاجه للاندماج في الحدث تماماً وكل ما تحتاجه للانتقال من حدث للآخر دون الخروج من الرواية. يسهب موراكامي في بعد الظلام بوصف هذه التفاصيل – وليس بالمعنى السيء، فالهدف من هذه الرواية بالكامل هو الرحلة، وليس النتيجة.

الكثير من المراجعين يتحدثون عن قدرة موراكامي على اختيار الموسيقى المناسبة لضبط المشهد، أو سعة معرفته بالثقافة العالمية والامريكية تحديداً وقدرته على تسمية كتب واقتباس عبارات منها في رواياته، ولكن هذه الأشياء مجرد عناصر من أسلوبه الأكبر في الوصف المفصّل، وليست محوره أبداً. أجل صرّح الكاتب أن الموسيقى والأدب الغربي جزء من حياته – وأنه يستلهم من الكثير من الكتّاب، وأنه لا يرسم خطّاً بين ثقافته الغربية واليابانية، ولكن كل هذا جزء فقط من الصورة الأكبر، الصورة التي تجعل رواياته لوحات مفصّلة إن صح التعبير.

أعتقد أن الهدف الواضح لرواية بعد الظلام من بدايتها بكونها تتحدث عن الأحداث، وليس نتائجها، كان من الأسباب الرئيسية التي جعلتها الأفضل بنظري، أو على الأقل جعلت وجود كل هذه التفاصيل وبناء كل هذه الأجواء مبرراً وجيداً.

هذا والأمر الذي يقوم به موراكامي أفضل من أي كاتب آخر قرأت له حتى الآن؛ الحوارات.

حوارات موراكامي

إن كان عليّ وصف حوارات موراكامي بكلمة واحدة فستكون غالباً “ديناميكية” لعجز قدراتي التعبيرية على وصف الشعور الذي تنقله لي كقارئ. في الحقيقة، الحوارات هي ما يدفعني لقراءة أعمال موراكامي، وهي الأمر الوحيد الذي أعدّه “تعلّماً” من رواياته والأمر الوحيد الذي أحسده عليه. بالطبع أحسده على قدراته التعبيرية وأساليب لعبه على الكلمات وقدرته على كتابة روايات رائعة بأفكار غير مسبوقة، ولكن كل هذا في كفة، والحوارات في كفة أخرى.

الحوارات في بعد الظلام، هي الأفضل، الأفضل بين روايات موراكامي التي قرأت فيها أصلاً أفضل الحوارات التي قرأتها قط – أو على الأقل الحوارات الأفضل بالنسبة لتفضيلاتي الشخصية. والسبب الذي يجعلها الأفضل في بعد الظلام بسيط:

هذه الحوارات مكتوبة لتكون ممتعة، لتكون مضحكة، لتكون عفوية، لتكون من طرفين، أحدهما يرد على الآخر دون أن تشعر كقارئ بأن الكاتب يحاول دفع معتقداته أو أفكاره عليك دفعاً. الشخصيات هي من تقول هذه الكلمات، وهي من ترد عليها، بشخصياتها، وليس بشخصية الكاتب.

الرواية مخلصة لهذه الشخصيات، ولا تفرض عليهم قول أشياء لا يؤمنون بها. وحين تفعل ذلك تسلّط الضوء على هذا وتحاول شرحه بدلاً من المتابعة غير آبهة بحجّة أنها “قصة خيالية” دون تبرير فعليّ.

أعتقد أن ما يجذبني في حوارات موراكامي هو أنها تشعرك بأنها حقيقية، بأنها مقنعة من ألسنة الشخصيات. وهذا أمر لم أستطع القيام به بعد في أي من قصصي.

بالطبع، هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يحبون الطريقة التي تكتب فيها حوارات موراكامي، كونها لا تقوم بالضرورة بإيصال “فكرة” محددة في كل سطر منها، بل تتحرك بطبيعية من الموضوع للآخر، ويمكنني فهم هذا، ولكن جمال الروايات برأيي كأسلوب كتابيّ هو أنها تسمح للكاتب باستغراق الوقت الذي يريده في التركيز على ما يريده – الكاتب هنا ليس محصوراً بعدد كلمات معين أو بوقت معين للنهاية، والقارئ لا يبحث عن “الخلاصة”… الرحلة هي الأهم، وهذه الحوارات جزء كبير من الرحلة.

نهايةً، موراكامي من كتّابي المفضلين، وبعد إنهاء أربع من أشهر رواياته واقتراب انتهائي من الخامسة وبدايتي بالسادسة قريباً، كان عليّ الحديث عنه – ولو لم أوفّه حقه – في مقال أفرّغ فيه الأفكار التي ازدحمت برأسي أثناء القراءة.

هادي الأحمد

هادي الأحمد

المقالات: 9

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *