أيّهما أنت؟ الذي يقرأ هذا الكلام أم الذي يعيش في الخارج

بدأ أحد الأصدقاء الأعزاء تدوينة قصيرة له بالعبارة:
من الصعب القول اليوم أنه يوجد عالم “افتراضي” وعالم “حقيقي” فالتداخل الكبير وصعوبة الفصل بين العالمين تجعل التوصيف الأدق هو “الواقع الفيزيائي” و “الواقع الرقمي”.
– من تدوينة: العالم اليوم – عبدالله الموسى
ليشجعني أيضاً على الحديث قليلاً بهذا الخصوص.
كفرد من جيل اعتمد تلك المصطلحات منذ البداية ولم يدرك سوى في السنوات الأخيرة أنها لا تعبر فعلاً عمّا يعيشه، بل تجعله أكثر حيرة وانفصالاً عن ذاته في محاولة لمعرفة حقيقة ما يدور في داخله عندما يعبر عن نفسه على الشبكة بطريقة، وعلى أرض الواقع بطريقة أخرى، أردت أن أعود لهذا مرة أخيرة، ليس عن طريق المشاركة برأيي في نقاش عابر وإنما بوضع كل شيء في سياق أكثر وضوحاً.
ربما استعجلت في المقدمة ودخلت في الموضوع دون توضيح ما أتحدث عنه تماماً، ولكن هذا جمال المساحة اللانهائية على الانترنت، يمكنني ببساطة وضع نقطة.
سطر جديد،
وعنوان يشير إلى فقرة جديدة

السرية التي قدمها الانترنت لمستخدميه، ولو كانت مزيفة في كثير من الأحيان، سمحت لهم بالتعبير عن أشياء مختلفة لم يكونوا قادرين على التعبير عنها في حياتهم العادية، لم يكن مستخدمو الانترنت في البداية خاضعين لنفس القوانين التي قد تبدو بديهية اليوم، فاستخدام الأسماء المستعارة الذي اختفى تقريباً على شبكات التواصل الإجتماعيّ كان التصرف المعتاد أيام المنتديات وحتى في أيام الشبكات الاجتماعية الأولى.
ثقافة “المجهوليّة” تلك شكلت الكثير من جوانب الانترنت الذي نستخدمه اليوم، على سبيل المثال مفهوم الـ Cat Fishing الذي وجد طريقه إلى ثقافة اغلب المستخدمين الرقمية، سواء من المزاح أو الحديث الجدي عن “وجود الإناث الحقيقيات” على الشبكة أو في مجتمعات ألعاب أو تقنية معينة، ونقاش إن كان خرافة أم حقيقة – المجهوليّة التي قدمها الانترنت لعبت دوراً كبيراً في بناء نظرتنا لهذا المفهوم وجعلته يرتبط في كثير من الاحيان بالانترنت والانترنت فقط، مع أنه كان موجوداً من قبل.

لا تزال المجهولية موجودة اليوم، ولكن مقارنة بأيام الانترنت الأولى التي كان من قواعدها الأساسية “عدم استخدام الاسماء الحقيقية” – الشبكات الاجتماعية التي تطلب توثيق الحسابات بالوثائق الرسمية واستخدام الأسماء الحقيقية ومعلومات التواصل الحقيقية من رقم الهاتف وحتى البريد الإلكتروني، هذه الشبكات قد تبدو لشخص قادم من عام 2000 مثلاً على أنها قطعة من الجحيم، شيء دمّر أجمل جوانب الانترنت، شيء غير قابل للاستخدام.
لأعود لنقطتي الرئيسية، ثقافة المجهولية هذه هي نفسها التي جعلت الفصل بين تصرفات الشخص على الانترنت وبين تصرفاته على أرض الواقع أمراً شائعاً – في تلك الفترة التي كان فيها الانترنت عبارة عن “أرض حرة” أو “ساحة للفوضى” بحسب نظرتك له، في تلك الفترة كان بإمكانك نشر القصص الإباحية باسم مستعار، والمواضيع الدينية تحت اسم آخر، والحديث بصفتك فتاة باسم ثالث، والحديث عن لعبتك المفضلة تحت اسم رابع.
لم يكن المستخدم مجبراً على التفكير بعواقب ما يقوم به على الشبكة، وإلى حد ما، كان هذا الأساس الذي جعل الانترنت ما عليه، وجذب الناس لاستخدامه في البداية، ولكنه كان أيضاً الدافع لجعله “جزءً آخر” من شخصية المستخدم – ففي نهاية المطاف كون ما تقوم به على أرض الواقع لن يؤثر على تصرفاتك على الانترنت والعكس صحيح.
شخصيتك “الواقعية” مفصولة عن “الافتراضية” بالكامل.
أو هذا كان المعتقد السائد بأي حال.
لماذا انحسرت المجهوليّة؟

القصة القصيرة: الحكومات والقوانين. القصة الطويلة: عندما أصبح العالم “الإفتراضي” مكاناً ينفق فيه وعليه المال “الحقيقي جداً” كان من الضروري تقنين هذا المكان، على الأقل في المساحات الأوسع والأكثر حساسية مثل شبكات التواصل الإجتماعي التي صممت لتكون من لحظاتها الأولى مشاريع تجارية مبنية على المعلنين أصحاب الشركات “الحقيقية جداً”.
لم تنتهِ المجهوليّة بالكامل، لا يزال بإمكانك استلام المال على محفظتك الرقمية، ومن ثم شراء ما تريد باستخدام هذا المال، لا يزال بإمكانك النشر باسم مستعار على منصات تواصل اجتماعي مثل تويتر، ولكن في كثير من الأحيان هذه المجهوليّة مزيفة. تويتر يعرف رقم هاتفك “الحقيقي جداً” وحتى تصبح قادراً على سحب الأموال الرقمية في كثير من الأحيان ستكون بحاجة إلى خدمة مؤكدة بوثائق رسمية “حقيقية جداً”.
الحكومات تريد معرفة أين تتحرك أموال مواطنيها، سواء كان هذا الطريق على أرض الواقع أم في “مكان وهمي ما”… لا يهم، المهم أنها أموال، وأنها لمواطنيها، وأنها تتحرك.
ربما المسمار الأول الذي دق في نعش المجهوليّة على الإنترنت كان مع بداية قوانين “اعرف زبونك” التي اشترطتها الدول على الكثير من الشركات التي سمحت بالتعاملات المالية في منصاتها الرقمية للمستخدمين “بالجملة”.
سأنحرف قليلاً عن المسار لأوضح لماذا قد تسمح شركات بهذا النوع من القوانين بالاستمرار دون “مقاومة” تذكر؛ الأمر متعلق جزئياً بكونه يسمح للشركات -بل يجبرها أمام مستخدميها للدقة- بأن تجمع بيانات شخصية عن المستخدمين لم تكن لتكون قادرة على جمعها دون هذه القوانين.
عودة لمساري الرئيسي، انحسار المساحة التي يمكن للمستخدم فيها أن يأخذ مجهوليّته التامة، وأن يتصرف “دون قيود” وتحول هذه المساحات إلى أماكن “عميقة” في الانترنت، واكتساب مواقع مثل 4Chan الشهرة بسبب توفيرها المجهولية للمستخدمين، جعلت الفصل بين مفهوم الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي أمراً لا طائل منه.
انفصام شخصية؟

Give a man a mask and he will show his true face.
أعط الرجل قناعاً وسيظهر لك وجهه الحقيقي.
– أوسكار وايلد (؟)
في الحقيقة الاقتباس الموجود في الأعلى ربما لا يكون من “ابتكار” اوسكار وايلد نفسه، فهو موجود في جمهورية بلاتو على شكل خاتم يمنح الإنسان القدرة على الإختفاء بإرادته، واستلهم منها بعد وايلد تولكين في ملحمة ملك الخواتم.
موضوع المجهوليّة يحمل الكثير من النقاش، ولا أعتقد أنه من الصحة الإدعاء أن أياً من الوجهين اللذان يظهرهما الشخص، سواء مع القناع أو دونه، هو الوجه الحقيقي والمعبر الأكمل عنه. ولكن ما يمكن قوله هو أن لكلاهما وجود حقيقي بقدر الآخر.
أنت من يستمتع بالتعبير عن أفكاره بحرية تحت القناع، وأنت أيضاً من يعبر عنها بالكلام المنمق دونه. جزء من الفوضى وجزء من النظام، ووجودهما معاً لا مشكلة فيه طالما أبقيت الأمر تحت السيطرة.
في الطرف الأول، الإنحياز للفوضى يجعلك تغرق في دوامة من اللامسؤولية، نوع من التيه الذي قد يصل أحياناً لفقدان التماس مع الواقع، الشعور بالأمان الزائف والمجهوليّة الزائفة التي تتسلل شيئاً فشيئاً، تفقد حذرك في موقف أو موقفين وتبقى عالقاً في دوامة من الشك. في أسوأ الأحوال سيعود ماضيك مع القناع ليطاردك في المستقبل – ومع عالم يعتمد على البيانات المتوفرة على الإنترنت أكثر وأكثر، لن تكون قادراً على تخطي الأمر.
الإنترنت لا يجهل شيئاً، الإنترنت لا ينسى شيئاً.
وفي الطرف المقابل، الإلتزام المبالغ فيه يجعلك تضحي بحقوقك دون إدراك، نوع من الإنقياد الذي قد يصل إلى العبودية، التسليم الكامل للشركات الكبرى والحكومات التي تطلب منك كل ما ترغب به وتعطيها إياه غير مكترث ب”شخصيّتك” لتصبح أداة أخرى بيد الأخ الأكبر، يعرف كل شيء عنك، يعطيك كل ما ترغب بسماعه، ويبقيك تحت السيطرة – ومع عالم يعتمد على البيانات المتوفرة على الإنترنت أكثر وأكثر، لن تكون قادراً على تخطي الأمر.
الإنترنت لا يجهل شيئاً، الإنترنت لا ينسى شيئاً.
بالطبع، هذه ليست سوى رومنسيات ومبالغات، ولكنها تظهر المشكلة في أقصى أشكالها. وتظهر الحل الكامن في التوازن.
والتوازن يعني أن الإنترنت لم يعد مكاناً وهمياً، وأن الأقنعة فيه لم تعد حقيقية، ويعني في نفس الوقت أنه ليس مكاناً يمكن الوثوق به بالكامل، وأن السرية – مهما كانت محدودة، مهمة فيه.
أيّهما أنت؟
باختصار، كلاهما أنت، وكلما استعجلت بإدراك هذا كلما كانت تجربتك على الإنترنت أكثر سلاسة، كلما كان بإمكانك التعامل مع تغيير الجغرافيا الإنترنتية بسهولة أكبر، كلما كنت قادراً على التحكم بمصيرك – دون الإنصياع للفوضى، ودون الإنسياق المطلق.