خارج السياق #2: لماذا أكتب وحديث “خارج السياق” عن فيديو شاهدته

في حديث قبل أيام مع إحدى الصديقات -كاتبة ومترجمة روايات أحترمها جداً- دخلنا في نقاش حول كوني أعرف ما أريده من الكتابة أم لا، وأجبتها صراحة عن أسبابي الثلاثة الرئيسية للكتابة، وهي أسباب اقتنعت بها وبنيتها على مدى سنوات طويلة من العمل في الكتابة وممارستها كهواية مفضّلة، وكان تعليقها الذي دفع هذا النقاش أيضاً هو أنني “أمتلك رؤية واضحة لما أريده” – وهو مجاملة بشكل أو بآخر، لكّنّه خاطئ بالكامل – فمعرفتي للأسباب التي تدفعني للكتابة لا يعني أنني أمتلك زمام الأمور في بقية مجالات حياتي.

بأيّ حال، عاد لي هذا النقاش واستذكرت ما حدث فيه بسبب قراءتي لتدوينة نشرها أحد الأصدقاء اليوم حول الكتابة وما يدفع الكاتب نحوها، وعلى الرغم من اضطرابي قليلاً بسبب حديثه عن الانتحار (وأرجو فعلاً ألّا يقدم على هذا) إلّا أنّه يسرد مشكلة فعليّة يقع فيها حتّى من يمتلك “رؤية واضحة” عن العلاقة التي تربطه بالكتابة، أيّاً كان معنى هذا. فهو يعرض التناقض بين كون الكتابة أمراً رئيسيّاً في حياته وكونها سبباً في الضغط على هذه الحياة في نفس الوق.

وللصدفة الثلاثيّة العجيبة، شاهدت قبل أيام مقطعاً على يوتيوب لشخص مغمور نسبياً، يحاول معالجة التوّجّهات القصصية في الألعاب بنفس الطريقة التي يعالج فيها معلّموا الأدب نصوص الشعراء والكتّاب، كناقد يحلّل ما يراه ويحاول استنباط “هدف الكاتب” منه. أصابني هذا الفيديو أيضاً في الصميم، فهو يتحدث عن عقدة “السرقة” و”المبالغة في التفسير” التي يقع فيها أيّ شخص يحاول أن يقرأ قصّة بعين تحليليّة ليفهم رغبات كاتبها ومقصده الحقيقي – الّذي ربما لم يعلم هو أصلاً بوجوده.

هذه المصادفات المتتالية الثلاثة، شجّعتني على كتابة هذه التدوينة، التي فكّرت فيها للمرة الأولى بعد مشاهدة الفيديو المذكور سابقاً، وللمرة الثانية بعد المحادثة، وللمرة الثالثة اليوم.

لنبدأ من مكان ما

أسبابي للكتابة بسيطة جداً؛

  • أريد أن أعيد شيئاً للانترنت الذي أعطاني الكثير وأن أكون ذا نفع لأحد دون أن يعرفني كما كان أحد لا أعرفه ذا نفع لي في يوم من الأيام.
  • أريد أن يستمتع الناس بما أستمتع به أنا، سواء كان هذا قصّة أو مقالاً أو أي شيء آخر أكتبه، أريدهم أن يستمتعوا وأن يشعرو بمشاعر جيدة وأن يستفيدوا مما يقرأونه في نفس الوقت.
  • أحبّ أن أضع نفسي في موقف يختبر فعلاً إن كان ما اؤمن به أو ما أفكّر به صحيحاً أم لا، عندما أكتب يمكنني جمع أجزاء الأحجية في رأسي بطريقة أفضل، ويمكنني معرفة أيّها صحيح وأيّها خاطئ، وكيف يمكنني إصلاحها. حاجز التجربة والإعادة والإنجاز في الكتابة منخفض جداً مقارنة بأي طريقة أخرى لتنظيم المعلومات وهيكلتها، ربما يتغلّب عليها فقط معالجتها كبيانات ولكن هذا حديث لوقت آخر.

بالطبع، هذا وكونها تسمح لي بالعيش والعمل في مهنة أستمتع فيها.

لن تبقى هذه الأسباب ثابتة هكذا للأبد، ولم تكن هكذا من البداية، أعرف تماماً أن فهمي للمزيد من الأشياء، وفهمي لنفسي من خلال تلك الأشياء، يعني أنّي سأتغيّر دائماً، ولكن هذا جزء من الأسباب التي تدفعني للكتابة.

دائرة العذاب ومشكلة القيمة الذاتيّة

بوضع أسبابي تلك جانباً، وعلى الرغم من وصولي لحالة من التدفق أثناء الكتابة تعطيني شعوراً بالسكينة والهدوء، يبقى الشعور الحالك بعدها بالنقص إن صح التعبير، هناك دائماً شيء يمكن إصلاحه، هناك دائماً شيء تجهله، هناك دائماً شيء يخبرك أن ما تقوم به لا يمتلك القيمة نفسها التي تتخيلها أنت.

مهما حاولت أن تضع نفسك في حالة من تقبّل النقص، والتعامل معه، واعتباره جزءاً من الطبيعة البشرية، ستبقى هناك مشكلة “الاعتبار” الذي تبحث عنه لمعرفة القيمة الحقيقية ممّا تكتبه، وهو ما اعتقد أن طارق قد أشاره له في تدوينته، البحث عن القبول في أشخاص معينين، وعند الحصول عليه إدراك أنّه لا يعني شيئاً أو في أحسن الأحوال لا يعني بقدر ما كنت تعتقد.

لأكون أكثر صراحة، أنا أكترث اليوم أقلّ مما اكترثت به خلال أي فترة أخرى من حياتي بآراء الناس حول ما أقوم به، سعيت في السنوات الأخيرة لتشجيع كلّ من حولي على انتقاد كل سلبيّة في ما أكتبه دون هوادة، واستبدلت حاجتي لسماع الآراء “سلبية أو إيجابية” بحاجة لسماع ما يمكن إصلاحه، وهذا كان من أكثر الأشياء فائدة على أسلوبي الكتابيّ وحتى على طريقة تفكيري، سماع ما يمكنك إصلاحه يكبح تماماً دافعك للوصول للمثالية، ويبدأ بتحويله شيئاً فشيئاً لدافع إلى تقديم أفضل ما يمكنك تقديمه، بدلاً من أفضل شيء يمكن تقديمه بالمطلق.

حاجتي اليوم “لاعتبار” الناس حولي وتصفيقهم أو تشجيعهم أو مجاملاتهم معدومة، ولكن هذا لا يصلح أبداً مشكلة البحث عن معيار لقيمة ما أقوم به، هل هذا المعيار هو استمتاعي؟ فائدتي؟ الوقت الضائع؟ القيمة المادّية؟ أم خليط بينها جميعاً؟ أم شيء مختلف تماماً لم أفكّر به من قبل؟

صعب دائماً أن تضع قيمة لما تكتبه عند نفسك، وصعب أن تشعر بأنّه كافٍ، وينتهي بي المطاف في كثير من الأحيان عالقاً لأيام في دورة من البحث والعجز وفقدان الأمل لأدرك في النهاية أنّه عليّ فقط أن “أفعل ما عليّ” وأنتظر، وهذا الانتظار نفسه ما يجعل الكتابة أمراً يدفعك للجنون في كثير من الأحيان، رغم كونك تعرف تماماً ما تريده، وما تفعله، وما ينتج عن فعلك ذاك، ولكن الطريقة التي يعمل فيها الدماغ مختلفة تماماً.

السؤال هنا: كيف تضع هذه القيمة لنفسك؟ والإجابة؟ لا أحد يعلم.

وهذا ما يدفعني نحو الفكرة الأخيرة هنا، نحو الفيديو الذي تحدّثت عنه في البداية، عن:

المغزى الحقيقي من عمل فنّيّ ما.

الكتابة -مهما كان نوعها وموضوعها- عمل فنّي، بمعنى أنّها تعكس من الكاتب أجزاء قد يرغب أو لا يرغب بعكسها على النص، يأتي بعدها القارئ أو المحلل أو الناقد ليحاول فهم هذه الأشياء، ليس فقط الأشياء التي وضعها الكاتب بنفسه هناك، بل الأشياء الأخرى المخفيّة بين السطور.

كما فعلت أنا بمقال طارق، وكما أفعل بالفيديو الذي أتحدث عنه الآن، وكما فعل كاتب الفيديو في ذاك الفيديو نفسه، عن لعبة قام صانع اللعبة بالحديث فيها عن هذا الموضوع بالذات: كلّنا نبني آراءنا على ما نعتقد أننا فهمناه من كلام الآخر، وما رأيناه في عمله، وهذا الفهم في الحقيقة هو انعكاس لذاتنا على النص وربما يكون أبعد البعد عن الهدف الأصليّ منه.

عندما أردت الحديث عن مشكلة طارق وعكس تجربتي عليها، وفهمي لها، تذكّرت كلام صانع الفيديو أنّنا “نسرق” بشكل أو بآخر بكلامنا عن شيء ما، جزءاً من هذا الشيء، فنحن نؤثر ولو دون إرادتنا على إدراك الناس له، وقد يكون هذا بطريقة لم يرغب به الكاتب الأصليّ -لا بإرادته ولا دونها.

ولكن كما قال أيضاً، هذه السرقة أو الاستعارة مبررة في سياق الحصول على إجابة، ربما ليس عن السؤال الذي نبحث عنه، ولكن عن سؤال مهمّ آخر لا شك.

لننهي حديثنا في مكان ما

ما أردت الوصول له في هذا المقال أنّ الكتابة بنفسها مهما كانت أسبابك لممارستها لا تكفي لتكون سعيداً أو مكتفياً، وهذا لا ينطبق فقط على الكتابة، بل على أيّ عمل فنيّ آخر، هناك دائماً جزء مزعج وسؤال عليك الإجابة عليه قبل أن تصل للتدفق الكامل المثاليّ، لتصبح الكتابة مهرباً لا يؤثر بعد عودتك منه على حياتك الطبيعية، ولتصبح قادراً على إعطاء نفسك تلك القيمة بعد الكتابة.

وحتى تصل لتلك المرحلة، عليك فقط أن “تفعل ما عليك” وتجرّب.

5 تعليقات

  1. اكتب ثم اكتب ثم استمر.
    هادي، أنت تصعد بسرعة في مٌفضلة المدونات التي أتابعها، رغم تفهمي لعدم اكتراثك بآراء الآخرين (وهو شيء صحيّ).

اترك رداً على هل تصلح السيرة النبوية كقصة نجاح مثالية؟ [الإجابة غير الكاملة] - مدونة م.طارق الموصلليإلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *