مشكلتي مع نصائح الكتابة
مع الكم الهائل من المقالات التي أقرأها في هذه الأيام عن “تعلم كتابة مقال” و”نصائح للكتابة” أردت في البداية الحديث عن مشكلتي مع هذا النوع من المقالات وطريقة صياغة ما فيها من نصائح وتوجيهات، وبسبب ترددي بشأن طريقة صياغتي لهذا الموضوع وعدم رغبتي في الخوض في أمر قد لا يكفي ما لديّ من خبرة تغطيته كاملاً، أجّلت الحديث مراراً حتّى وصلت لهذه الصيغة؛ سأتحدث في البداية عن مشكلتي مع نصائح الكتابة موضحاً موقفي منها، ومن ثم سأقدّم “حلّاً” إن صح التعبير، ربما يساعد من يرغب في كتابة “دليل لتعليم الكتابة” مستقبلاً في معالجة أفكاره.
مشكلة الكتابة
أعتقد شخصياً أن الكتابة مهارة يجب على الجميع ممارستها وتنميتها دون استثناء، فهي أداة لعرض الأفكار وتنظيمها، وتعلّم استخدامها بالطريقة الصحيحة من الممكن أن يغيّر حياة الشخص بالكامل. أعتقد أيضاً أن على أيّ شخص يرغب “بتعليم” أحدهم الكتابة واجبٌ وضعه هو على نفسه، هذا الواجب هو صناعة شخص قادر على التفكير بنفسه، وفي نفس الوقت قادر على صياغة هذه الأفكار بطريقة مقنعة لمن حوله.
الكتابة فن، وطريقة تعليم الفنون مختلفة جذرياً عن طريقة تعليم العلوم الطبيعيّة، ما يختلف هنا أن “القيمة الذاتية” هي الحاكمة وليست “القيمة المطلقة”، والنسبيّة تحكم هذا المجال بالكامل بدلاً من الحقائق. إن كان المعلّم جاهلاً بهذه الأساسيّة سيخلق هذا العديد من المشاكل الأخرى -التي سأخوض فيها بعد قليل- وسيعارض المهمّة الأساسية التي وكّل نفسه بها عندما أخذ قرار نقل خبرته لشخص آخر، والتي تتلخص بمساعدة هذا الشخص على التعبير عن ذاته.
النظر للموضوع من زاوية المعلم والطالب يختلف جذرياً عن النظرة المعتادة التي على الكاتب التعامل فيها مع محتواه المخصص للقرّاء، هنا المحتوى موجّه لأشخاص يبحثون عن الأداة نفسها وليس عن الناتج عنها، والكثير من الكتّاب لا يدركون هذا عند الحديث عن نصائحهم وممارساتهم الكتابيّة، فينتهي المطاف بهم مع مقال أو نصّ مكتوب بطريقة تحاول إثارة إعجاب القارئ، بدلاً من الحديث عن الأدوات التي يستخدمها الكاتب بصيغة تسمح للراغب بالتعلم معرفة طريقة استخدامها.
النظر للأساليب الكتابية كأدوات بنفس الطريقة التي ينظر فيها الرسام لأدوات الرسم يغيّر الكثير في هذه الحالة، لن يتمكن الكاتب هنا الفصل بين هذا الأدوات بمجموعتين “صحيحة وخاطئة” بل سيجبر على الحديث عن “كيف تستخدم هذه الأداة” و”ما هي مشاكلها المعروفة وميزاتها المعروفة” وهذا بدوره يجعل المتعلم أكثر قدرة على اختيار ما يناسبه منها بدلاً من التقليد الأعمى أو اعتماد تلك النصائح كحقائق مطلقة.
سأعود لاحقاً لنقطة التقليد، وهي نقطة أراها تتكرر بكثير من المقالات -وكررتها بنفسي كثيراً دون التفكير بما يترتب عليها- ولكن ما أريد التركيز عليه هنا هو مفهوم الأدوات وكيف يغير هذا الاختلاف الكثير مما يترتب عليه من مفاهيم أخرى في مراحل مختلفة من سلسلة التأثير. الحديث عن سلسلة التأثير المطوّلة التي تنجم عن الكتابة لا يمكن احتواؤه في مقال كهذا، لذا سأركز على جزئين مهمّين من هذه السلسلة؛ الأول هو الطالب الذي يرغب بتعلم الكتابة لصناعة محتواه الخاص، والآخر الذي يرغب بتعلمها لفهم محتوى الآخرين بطبقة مختلفة عن بقيّة القرّاء، أي الصانع والناقد المستقبليّ.
ربما من الملائم هنا أن أنوّه، أن مصطلحات مثل “طالب ومعلم” و”ناقد وصانع” كلّها مستخدمة في هذا السياق للتمييز بين الكاتب والقارئ بحسب نيّة كلّ منهم، فالناقد قارئ وكاتب بنفس الوقت، ولكنّه يقرأ ليتعلم المزيد عن فنّ الكتابة بهدف الكتابة عنه، بينما الصانع على سبيل المثال يقرأ ليتعلم المزيد عن الأداة (الكتابة) ليكون قادراً على استخدامها في صياغة أفكار عامّة. ومن الممكن أن يكون الناقد كاتباً وقارئاً ومعلماً وطالباً وصانعاً في نفس الوقت مثلاً، فهي مجرّد اصطلاحات لتحديد اتجاه التأثير لا أكثر.
لنتحدث عن الصانع
يمكن ملاحظة التأثير الأوضح لصياغة النصائح الشائعة حالياً من خلال النظر إلى الصانع الجديد الذي اعتمد على هذه الدروس في بناء نصوصه، أسلوب النصائح الشائعة اليوم يميل إلى “التبسيط” المبالغ فيه والفصل بين الأدوات بصفات “الصح والخطأ” ويتجنّب التعامل مع أدوات الكتابة بصفتها أدوات، بل ويتعامل مع هذا المفهوم على أنّه خاطئ بالكامل أحياناً.
يبرر الكثير من الكتّاب -أو المعلمين إن صح التعبير في هذه الحالة- صياغتهم للنصائح بهذه الطريقة على أنّها “تفضيل شخصيّ في النهاية” على الرغم من صياغتها بأسلوب يشير لكونها “حقائق” أو يعممها بشكل لا يساعد على الإطلاق باستخدامها بدلاً من الحديث عن كونها “أدوات” وشرح استخدامها بشكل رئيسي، الصياغة برأيي مهمّة هنا بداية من مصلح “النصائح” المُساء استخدامه إلى “قواعد الكتابة” التي ترمى في كلّ مكان وحتّى “كيفية كتابة” شيء ما، كتحليل نقديّ على سبيل المثال.
هذا التبرير برأيي غير مقبول، أولاً لأنني كما أسلفت أعتبر من أخذ قرار كتابة “دليل تعليميّ” عن الكتابة يأخذ معه أيضاً واجب بناء جزء مهمّ من الطالب الذي يستخدم هذا الدليل، وثانياً لأنني أعتقد أنّه على المعلم -والكاتب تحديداً- أن ينتقي كلماته ويعرف تأثيرها جيّداً، وترك جزء من هذا “لفهم القارئ” بدلاً من توضيحه بالطريقة الصحيحة، مشكلة لا يمكن التغاضي عنها.
تؤدي هذه الصياغة إلى عدّة مشاكل، أولها أنها لا تعتبر مصدراً جيداً للتعلم لأنها لا تقدّم “تقييماً” للأسلوب المعروض، ولا “دليل استخدام” له. النسبة الأكبر من وظيفة المعلم تكمن في الحديث عن الأداة من منطلق الخبرة المكتسبة، أين يمكن استخدام هذه الأداة، وكيف، ولماذا، وما المشاكل المعروفة فيها. عندما يُفقد هذا من “الدرس” المقدّم، يتحول الحديث من نقل لخبرة الكاتب إلى محاولة لتعميم مفاهيم قد تنفع في مكان وتفشل في مكان آخر.
ثانيها أن هذا المحتوى سيكون عقبة أمام المتعلم في وقت لاحق، وسيكون رد الفعل عنه أحد شرّين، الأول التزام الطالب فيه وبقاؤه في سجن الركود دون أي تطور يذكر، والثاني تخليّ الطالب عنه على حساب الاحترام الموجود بينه وبين المعلم أحياناً.
وثالثها أن إساءة فهم الكتابة بهذه الطريقة لن تؤدي الغرض الرئيسي من تعلم الكتابة؛ إتقان التعبير عن الذات وصياغة الأفكار ومعالجتها.
وهذا يتخلص في النهاية بالمزيد من المحتوى السيء، المكرر، الروبوتيّ، الذي يعتمد على القوالب الجاهزة والقواعد الجامدة التي لا يمكن قولبتها للعمل في كلّ مكان، وهذا ما يقودنا للحلقة التالية؛ من يتعلم الكتابة بهدف فهم طريقة عملها أو “انتقادها” إن صح التعبير.
لنتحدث عن الناقد
النقد مصطلح عامّ جداً ولكن لنتفق أولاً على تعريف يقلّص الدائرة؛ الهدف من النقد، اعتماداً على معرفة الطريقة التي يصنع فيها العمل الفنيّ، محاولة فهم ما يجعل جزءاً منه جيداً أو سيئاً (بالمعيار الشخصيّ تماماً هنا وليس بالمطلق). في حالة الكتابة مثلاً، معرفة الناقد بالطريقة التي صنعت فيها رواية ما، أو مقالة ما، يجعله أكثر قدرة على تحديد ما أعجبه فيها وما لم يعجبه. معرفة أسلوب مستخدم ووضع “اسم” له يجعله أكثر سهولة للاستخدام كتفسير للإعجاب أو الكره.
الناقد يبحث عن تفسير “لماذا أعجبه أو لم يعجبه شيء ما” في عمل فنّي، ويحاول تدعيم هذا التفسير بأكبر قدر ممكن من الخبرة والمعرفة.
فهم هذا التعريف بالطريقة الصحيحة يحلّ المشكلة التي سأتحدث عنها بعد قليلٍ من أساسها، فمجرّد كون النقد يعتمد على “تفسير الإعجاب أو عدم الإعجاب” وهي مشاعر شخصية بالكامل، يجعل هذا المجال نسبياً بالمطلق، ليس فقط في حالة الكتابة، بل في حالة أيّ وسط فنيّ آخر.
ولكن، عندما تتعامل المصادر التي يقرأها هذا الناقد بالمطلقات، أي عندما تصاغ بطريقة تحوّل الأدوات الكتابيّة من مجرّد إدوات إلى طرق “صحيحة وخاطئة” يتشوّه الجزء الأول من التعريف، ويبدأ الميل نحو “قولبة” معيّنة للنص يميل فيها الناقد إلى البحث عن “ما يلائم هذا القالب” بدلاً من البحث عن “ما يشرح سبب إعجابه” في عمل ما.
والناقد بدوره يؤثر على حلقة أخرى من السلسلة، وهي قرّاءه، الذين بدورهم يؤثرون على الرأي العام، وهكذا تستمر الحلقة.
المشكلة الرئيسية لهذه الصياغة برأيي أنها تحاول حصر الفنّ في قالب معيّن يخضع للصواب والخطأ، والمداومة على اعتمادها تجرّد الفنّ من “نسبيّته” التي تعطيه أصلاً القدرة على حمل الأفكار، هذه القدرة التي يهدف لها أصلاً الفن بالمجمل، فالكتابة على سبيل المثال أداة لحمل الأفكار، وفن الكتابة يهدف بشكل رئيسيّ ليعرض هذه الأفكار بطريقة الكاتب الخاصّة، ووضع الكتابة في “قالب” يتعارض بشكل مباشر مع هذه القدرة.
الحلّ لمشكلتي مع نصائح الكتابة
كلّ هذا الحديث الطويل يقودنا للنقطة الأهم، ما هو الحل؟ والإجابة هي بالنظر للكتابة على ما هي عليه، الكتابة فنّ، وللفنان حريّة استخدام الأدوات التي يراها مناسبة لصناعة عمله بالطريقة التي يراها مناسبة. وهذا يقتضي الحديث عن الأدوات على أنها أدوات، الحديث عن ميزاتها وعيوبها، وطريقة استخدامها. لنأخذ على سبيل المثال واحدة من أكثر النصائح المكررة وسأحاول التوسع فيها قليلاً لأوضح فكرتي:
التقليد والاستنساخ
أرى هذه النصيحة ترمى في كلّ مكان مؤخّراً، وترتكز بشكل رئيسي على ثلاث محاور:
- تحليل النمط الكتابيّ المفضّل واختيار نقاط قوّته ونقاط ضعفه.
- جمع نقاط القوة والضعف من عدّة أنماط كتابيّة مفضّلة.
- استخدام نقاط القوة وتجنّب نقاط الضعف لصناعة نصّ مشابه للنص الأصليّ.
ومن ثم من المفترض أن ينتقل الطالب بعدها لكتابة نصّه الخاص، بعيداً عن النص الأصليّ تماماً، ولهذا العديد من الأساليب والطرق التي يتفنن في رسمها الكثير من المعلمين.
حسناً لننظر إلى هذه النصيحة على أنّها أداة ولنتحدث قليلاً عن مشاكلها وميزاتها وطريقة استخدامها.
كما أسلفت، الكتابة طريقةٌ لعرض الأفكار، أو حتى طريقة للتفكير بحدّ ذاته إن صح التعبير، لذا استخدام أسلوب شخص آخر في الكتابة يعني التأثر بشكل أو بآخر بطريقة تفكيره وعرضه لأفكاره… التأثير بحدّ ذاته ليس مشكلة في حال كان محدوداً ومقتصراً على جوانب معيّنة وكان الطرفان واعيان لوجوده، ولكن هذا النوع من التمارين قد يقود الطالب بسهولة إلى عقليّه “التابع” التي تعيده للمشكلة التي تحدثت عنها في البداية.
الهدف هنا ليس تقليد الأسلوب كما هو، بل فهم نقاط ضعفه وقوته وتحليل الأدوات التي استخدمها الكاتب وتأثيرها على القرّاء.
يجبر هذا الطالب على تحديد ما يحبه وما يكرهه في شيء معيّن ويدفعه للنظر من عين الناقد، أو القارئ المستقبليّ لأعماله، والهدف النهائي هو محاكاة رد الفعل لكل أداة استخدمها كاتبه المفضّل في النص. هذه المحاكاة تصل في النهاية إلى فهم أشمل لردود أفعال القرّاء، وهي المهارة الرئيسية التي يجب على الطالب تعلّمها من النص الأصليّ.
سيكون الطالب أيضاً أكثر قدرة على فهم الأدوات التي استخدمها هذا الكاتب وملاحظة ما نفع منها وما لم ينفع، وكيف يمكنه تصحيح هذا الاستخدام لو كان مكان الكاتب.
والطريقة الأمثل لفعل هذا لا تكون بنسخ نصّ ما أو محاولة تقليده أو اتباع خوارزمية معيّنة تقتضي كتابة كمية معيّنة من الكلمات كل يوم قبل الانتقال لكتابة شيء خاص، بل بمحاولة الوصول للأهداف التي ذكرتها قبل قليل بأي طريقة ممكنة، ويترك للطالب برأيي حرية اختيار الأسلوب لهذا، سواء كان عبر القراءة وأخذ الملاحظات، أو الكتابة ومحاولة توظيف أشياء معينة من النص الأصلي، أو حتى محاولة الكتابة بشكل مستمر أثناء التعرض للمحتوى بهدف تشرب الأسلوب بشكل لا واعي… الطريقة غير مهمة، الهدف هو المهم.