الفصل الأوّل: مطاردة الشهرة – Clout Chasing

يرتبط العالم الرقميّ اليوم بالعالم الواقعي ارتباطاً وثيقاً، وكشخصٍ يعمل ويمارس هواياته ويتواصل مع أصدقائه وعائلته وزملائه في العمل عبر الشبكة، ويمتلك “وجوداً” عليها إن صح التعبير، ليس من المنطقيّ أن أفصل بين “حياتي الواقعيّة” و”حياتي الرقميّة” فالعلاقة بينهما ليست علاقة عوالم متوازية، بل علاقة نسيج، يتلامس في نقاط، ويتباعد في نقاط أخرى.

مع الوقت، يصبح مفهوم “المواطن الرقميّ – Netizen” أو “المقيم الرقميّ” أو “المدمن الرقميّ” إن أردت حتّى، مفهوماً ينطبق على أغلبيّة الناس لا على العاملين عبر الشبكة فحسب. وأصبح الحديث عن جوانب الحياة الرقميّة، لا من ناحيتها التقنيّة، بل من ناحيتها الفكرية والنفسية والروحانيّة، أمراً لا بدّ منه.

خصوصاً أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ خلقت سياقات جديدة لملامسة هذه النواحي، تختلف جذرياً عن تلك الموجودة على أرض الواقع، ووضعت بين يد كلّ مواطنٍ رقميّ أداةً تتيح له مشاركة أفكاره، سواء تلك القادمة من إرادته أو دونها، مع شعبٍ لا تحدّه الحدود الجغرافيّة، ولا تعيقه الحواجز الاجتماعيّة.

لسنوات طويلة، أردت مقاربة مواضيع مرتبطة بهذا المجال، وأردت -بشدّة- أن يكون هناك “خارطةٌ” يمكن لمواطنٍ رقميّ أن يعتمد عليها، ليكون قادراً على الأقل على تمييز ما يمرّ به من ظروف وأحوال ومشاعر وأفكار، وربما في أحسن الأحوال، أن يكون قادراً على فهمها والتعامل معها والخلوص إلى حلّ مرضٍ لها.

وهذا ما دفعني لبداية العمل على هذا الدليل؛ لأنّي أعلم أنّ الكثير من المواطنين الرقميين لا يمتلكون صديقاً حقّيقياً قادراً على إخراجهم من دوامات الشبكة ومنحدراتها، ولا يمتلكون الخبرة الكافية لانتشال أنفسهم ونفض العفن عن أرواحهم لحداثة عهدهم – أو حتى لجهلهم بعالمٍ موجود وما زال موجوداً خارج حدود منصات السوشال ميديا ومستنقعاتها.

أدعو أن أوفّق بهذا.

تعريف مطاردة الشهرة

من المهم برأيي في هذا السياق التمييز بين مفهومين متشابهين نظرياً، لكن يختلف ما يترتب على كلّ منهما جذرياً: 

الأول هو حب الوصول والانتشار وإسماع الصوت، وهو مفهومٌ موجود قبل الشبكة وقبل حتّى الثورة الصناعيّة كلّها، فأغلب الكتّاب والشعراء والخطباء والرّسامين والنّحاتين أرادوا لأعمالهم أن تصل لأبعد مدى، وأن يراها ويفهمها ويدرك قيمتها أكبر عدد ممكن من الناس.

في المقابل، مطاردة الشهرة تغيّر الهدف، فبدلاً من أنّ يكون هدف الشاعر أن يعترف الناس بفصاحته، أو يكون هدف السياسيّ والدبلوماسيّ أن يضع الناس ثقتهم فيه، أو يكون هدف الكاتب وصول كتاباته وتأثيرها بأكبر عدد ممكن من الناس، يصبح في حال مطاردة الشهرة الهدف هو زيادة الوصول والانتشار  بحد ذاته، بدلاً من كونه وسيلة، متجاهلاً الهدف والتأثير والقيمة، ومركزاً على الضجة فحسب.

لا يهمّ لكاتبٍ مطاردٍ للشهرة أن يصل كتابه لأكبر عدد من الناس لأنّه يرغب بإيصال كلمته لهم أو حتّى أن يكسب منهم المال؛ بل المهمّ فقط هو تحقيق الشهرة نفسها، ومن بعدها كل شيء ثانويّ.

نظرة على مطاردة الشهرة

لشخص لا يجد في نفسه الرغبة بمطاردة الشهرة، سواء كان مواطناً عاديّاً من الشبكة أو صاحب مساحة ووجودٍ عليها، قد يبدو هدف مطاردة الشهرة لهدف الشهرة أمراً لا طائل منه، ومجال لا يخوض به سوى الحمقى وأصحاب القلوب الخاوية، ويطال المشاركين فيه من هؤلاء نقداً كثيراً.

وفي الآونة الأخيرة، تكرر نقد مستخدمي تيك توك، وحتى كثيراً من مستخدمي تويتر (وهما منصّتان تضعان ثقلاً كبيراً على خوارزميات الاستكشاف والانتشار للمحتوى) بخصوص هذا الميل. وأصبح هذا النقد بذاته محتوىً يمكن من خلاله مطاردة الشهرة، وهو أمرٌ ليس بالجديد، فقد لاحظنا هذا سلفاً في موجة المؤثرين الأولى على يوتيوب، وصعود محتوى “التعليق – Commentary” وهبوطه لاحقاً بعد أن ظهر محتوىً ينتقده هو الآخر من زاوية مشابهة جداً.

فيديوهات التحديات والرقصات والتريندات التي تنتشر بقوة بين المراهقين والشباب، وصور الكثير من “الهوامير” مع أفرادٍ لا يملكون القدرة على ردّ ورفض انتشار هذه الصور على الشبكة، كأصحاب الصعوبات الذهنية والمشردين أو أفراد العائلة المصابين بأمراض تحد من قدراتهم العقلية والذهنية، أو الحسابات التي تنشر فيديوهات وصور كاذبة مستفزةٍ للتفاعل والرد، أو حتّى، وهذا في الطرف الغربيّ من الشبكة، العريّ والإباحيّة واستجرار الهيجان الجنسيّ.

وقد بدأ بالفعل المحتوى المنتقد لهذه الظواهر بالتحول هو نفسه إلى أداة لمطاردة الشهرة، فترى الكثير من المؤثرين وأصحاب المنصات يستغلونه لتحقيق انتصارات على الشبكة، دون أي نظرة حقيقيّة لهذا المحتوى، وما يمثله وما يدفعه؛ وهذا بديهيّ، لأنّ هذه النظرة ستكون بدورها نظرة ناقدةً لهؤلاء أنفسهم، وهذا المستوى من استجواب الذات ليس سهلاً.

وحتّى أصحاب النوايا الحسنة، غير مطاردي الشهرة، من منتقدي هذا المحتوى، يصعب عليهم محاربة هذا التوجه، وهذا بديهيّ، فهم أيضاً يعجزون في كثير من الأحيان عن النظر لهذا الأمر نظرة موضوعيّة وخارجة عن سياق امتعاضهم منه، وهذا ما سأحاول القيام به.

تفسير مطاردة الشهرة

لنضع أولاً بعض القواعد البسيطة التي سأكررها كل فصل من فصول هذه السلسلة: أغلب المشاكل التي سأتعرض لها متعددة المصادر، ولا تفسير قاطع ينطبق على كلّ حالاتها، فهي إضافة لكونها حالةً بشريّةً مميزة، يمر بها كلّ شخص في سياقه الخاص، تخضع لقواعد مختلفة باختلاف المكان الفيزيائي والرقميّ لمن يمرّ بها.

فعلى سبيل المثال، لن تتشابه تجربة مراهق عربيّ بتجربة مراهق أمريكي ولن تتشابه تجربة كلّ منهما تجربة مراهق شرق آسيويّ، فلكلّ من هؤلاء عوامل مختلفة تؤثّر على تجربته، وكلّ منهم يعيش في كون مختلف عن الآخر، رقميّاً وجغرافيّاً.

التفسير الأول: فن العمارة الرقميّ

ترسم الجغرافيا التي نعيش فيها على أرض الواقع جزءاً من شخصيتنا، وهذا ما تشير إليه دراسات حديثة وقبلها بكثير تقسيمات ابن خلدون للأقاليم، وربطه لها بطبائع الناس وعاداتها، وعلى الرغم من قبول الناس لوجود هذا التأثير وحديثهم عنه، إلا أنّ رسم وصلاتٍ بينه وبين “الجغرافيا الرقميّة” إن صح التعبير، لا يزال محدوداً.

شخصياً، أجد أن المساحات الرقميّة تقولب طبائع الناس وعاداتها بقوّة أكبر من تلك التي تطبقها العوامل الجغرافية، فالتقنيات المختلفة ساهمت في تسهيل حياة الناس بمختلف الأقاليم لحماية أجسادهم، لكن لم يبنِ الإنسان بعد عاداتٍ وتقنيات تساعده على النجاة بعقله ووعيه على الشبكة في ظروف مناطقها المختلفة.

يربط الكثير من المواطنين الرقميّين اليوم مواقع ومساحات ومنصات سوشال ميديا معيّنةٍ بمشاعر معيّنة: انستغرام والغيرة، وتويتر والغضب، وفورتشان والفوضى، وفيسبوك والجهل، وتيك توك وانعدام التركيز مثلاً، وهذا ليس غريباً، فهذه المنصات تساعد فعلاً في إظهار تلك المشاعر لدى مستخدميها، لكنّها قادمة جميعها برأيي من طريقة بناء تلك المنصات و”عمارتها” بقدر قدومها من مستخدميها أنفسهم.

وبمجرد فهمك للطريقة التي صممت فيها منصّة ما، يصبح من الأسهل عليك “العيش” في تلك المنصة دون أن تقع في الأفخاخ المنصوبة لقاطنيها:

لنأخذ على سبيل المثال تويتر: 

تشجيع الاندفاعيّة في تصميم تويتر

تمحورت هذه المنصة على مشاركة الآراء السريعة والمختزلة، إذ تحدّ مساحة الكتابة وتسهّل النشر، وعلى الرغم من إمكانيّة إضافة روابط وصور وفيديوهات للتغريدات، وحتى مع إمكانيّة ربط التغريدات المتتالية بسلاسل تجعلك قادراً نظرياً على إطالة المحتوى، ما تشجّع عليه المنصّة هو ذاك المحتوى القصير المختزل – وتستعجلك كثيراً في نشره. 

ويميل أغلب مستخدمي تويتر -كما أيّ منصّة سوشال ميديا- إلى تجاهل الدعوات التي تحاول شدّهم خارج تجربة تصفح المنصة تلك كالروابط والفيديوهات الخارجية.

حتى بعد تحديثات إيلون، تبقى تويتر منصّة تركّز على المحتوى السريع، لأنّ مستخدميها ما زالوا معتادين عليه، وما زالت الحالة النفسية التي يدخل فيها الناس للمنصة، تبحث عن ذاك المحتوى المختزل، لا القراءات المعمقة الطويلة.

حتى تصميم الواجهة، يركز على الاختزال والاختصار. ولا يساعد على تنسيق النصوص المطولة التي سمح بها إيلون، ومشغل الفيديو لا يزال متهالكاً لا يصل لربع تجربة استخدام مشغل يوتيوب على سبيل المثال. هذا يعني أنّ البيئة ولو أضيفت لها ميزات جديدة، لا تعني هذه الميزات شيئاً ما لم تدرج بتجربة استخدام مناسبة، وما لم تنل رضى من عموم مستخدمي المنصة.

تكافئ المنصّة أيضاً هذا الاندفاع، فالتعبير عن رأي مثير للجدل، والرد بردود مستفزّة، يضمنان تفاعل المستخدمين الآخرين مع المحتوى، بالتالي زيادة انتشاره وظهوره ككرة ثلج متدحرجة.

تويتر والحديث على الملأ

تركز تويتر على “عموميّة” الحديث، فهي تشبه لحدّ ما الملتقيات الشعرية أو النقاشية العامّة، التي يمكن لأي أحد فيها أن يدخل ويستلم مايكروفوناً للحديث، وتضخّم هذا الجانب عبر خوارزميات تدفع المحتوى الجدليّ والذي يتفاعل معه الناس لمجموعة أكبر منهم. نعم تتيح المنصة إمكانية النشر المحدود والخاص، لكنّها افتراضياً تضعك على خشبة المسرح، وتتيح لك مشاركة أفكارك مع العالم.

هنا يجب الانتباه لكون تويتر تضع المستخدم في مقعدين متضادين: الأوّل هو مقعد الحكم على من يأخذ هذا المايكروفون الوهميّ ويتحدث فيه، والثاني هو مقعد المتحدث، الذي يتلقى الانتقادات من بقيّة المستخدمين.

لو كان سياق هذا على أرض الواقع، لما أراد أغلب مستخدمي تويتر الظهور أمام العامة ومشاركة آرائهم بالطريقة ذاتها – وهذا طبيعيّ، فالمنصّة مصممة لاختزال بعض جوانب هذا الظهور العام، التي ترتبط عادةً بالخوف والقلق والتردد.

على سبيل المثال، تضمن المنصة نسبة لا بأس بها من المجهولية – Anonymity، ولا تتطلب كفيسبوك مثلاً استخدام اسمٍ حقيقيٍّ أو صورةً حقيقيّة، وتضمن أيضاً قدرة التراجع والانسحاب بخسائر قليلة مع حفظ ماء الوجه، فحذف التغريدات ممكن وحتّى حذف الحسابات وإنشاء الحسابات الوهميّة، وهذا يسهّل التراجع عن المواقف والنأي بالنفس عنها.

ورغم وجود ثقافة مضادة، تنظر لهذا النوع من الممارسات بعينٍ ناقدة، إلا أنّها ممارسات شائعة، وتأثيرها على النظرة العامّة لشخص ما، أقل من تأثير ظهوره في مناظرة عامّة أمام حشد حقيقيّ وتعرضه للنقد المباشر المرتبط بذاته بكثير.

أهميّة الأرقام في نظر مستخدمي تويتر

يمكن ملاحظة تأثير أهميّة “الأرقام” على ثقافة مستخدمي المنصّة عبر نظرةٍ سريعة على المصطلحات التي اخترعها هؤلاء المستخدمون للتعبير عن مواقف شائعة ومؤثّرة قد تحصل بين مستخدميها، فالريشيو – Ratio مصطلح يدلّ على “هزيمة” شخصٍ عبر حصول ناقده على إعجابات وإعادات تغريد أكثر لردّه على التغريدة، مقابل تلك التي حصلت عليها التغريدة الأصليّة.

لاحظ أن المصطلح لا يركز أصلاً على قوّة الحجة أو نوعها، ولا أهميّة لهذا أصلاً في هذه المساحة، فموافقة عدد أكبر من المستخدمين مع المنتقد، يدل بنظر الجميع على أنّ حجّته أفضل، وأنّ صاحب التغريدة الأصليّ على خطأ.

ولأهميّة الأرقام، تلحظ الكثير من السياسيّين والمؤثرين يعتمدون في فترات كثيرة على نفش أرقامهم: سواء أرقام متابعيهم أو إعجابات تغريداتهم أو غيرها، عبر الاستعانة بحسابات وهميّة – Bots وعبر توظيف الترولز – Trolls لخلق وهمٍ من التفاعل والاتفاق على آرائهم، رغم رداءتها وسوء حجّتها.

والسبب وراء خلق كلّ هذه الأهميّة للأرقام، هو أنّها الطريقة الأسهل للتعبير عن الموافقة أو الرفض، وكما أسلفت، تضع تويتر المستخدم دائماً في موضع الناقد، وتسهل عليه هذا حتّى لو لم يرد مشاركة رأيه المضاد بنفسه. وفي المقابل، هذه الأرقام أسهل للوصول والفهم من البديل، وهو تصفح الردود وبناء انطباع عامٍ عن انتقادات الناس لما يقوله الشخص والمستخدم سيميل دوماً للطريق ذي المقاومة الأقل للحصول على مبتغاه.

التلعيب –  Gamification في تصميم تويتر يحرف قيمة هذه الأرقام بأذهان المستخدمين، ويجعل الميل لتحصيلها هدفاً بذاته بدلاً من أن يكون وسيلة. فهو في تعريفه، طريقة لتحويل تجربة استخدام التطبيق إلى تجربة جذّابة تقدم نفس التجربة الإدمانيّة الممتعة التي تقدمها ألعاب الفيديو.

كيف تقاوم تأثير تصميم منصات التواصل الاجتماعيّ على تصرّفاتك وآرائك؟

أولاً، عبر إدراك وجود تأثيراتٍ مقصودة وغير مقصودةٍ لهذا التصميم، والتركيز هنا على وجود تأثيرات غير مقصودةٍ من صانعي المنصّة، فالميل لتفسير كلّ ما يجري من تصرّفات مستخدميها على أنّه مقصود ومحبوك من صانعي هذه المنصات يميل لنظريات المؤامرة، وهو ما سنخوض فيه في الأجزاء اللاحقة إن شاء الله.

الاتّكاء على “لوم المنصّة” وتصميمها ليس خياراً صحيحاً لمن يفهم هذا التصميم، وبفهمك لهذا ستكون أكثر قدرة على تخطي لوم التصميم والانتقال لمحاكمة الذات. 

بعد فهمك لوجود هذه العناصر التصميمية، عليك أن تفهم ما يتفاعل منها معك، وأن تحاكم ذاتك لتفهم مصدر تصرّفاتك المرتبطة بها. هل تجد نفسك تنظر بكثرة لأرقام الإعجابات على تغريدة قبل أن تتفق أو ترفض ما فيها؟ هل تجد نفسك أكثر ميلاً للنشر والمشاركة في نقاشٍ ما دون البحث والإطلاع وتشكيل رأيٍ مطوّل عنه؟ هل تجد نفسك أكثر جرأةً في التصريح عن آرائك على المنصة مقارنة بالواقع؟ استجوب نفسك دائماً.

قد يرهقك هذا في الفترات الأولى، وهذا طبيعيّ، لكن تذكّر أن استخدامك الطويل لهذه المنصات بنى فيك عاداتٍ كثيرة، لن يسهل التخلص منها.

بعد إدراكك لهذا، عليك أن تضع بعين الاعتبار أنّ هذه المساحات ليست سوى مجالٍ للتواصل والنقاش وتبادل الأفكار، وأنّ ما تشعر به أحياناً من الخوف والقلق والضغط والغضب، ليس سوى نتيجة حتميّة لتعاملك الجاد مع المنصّة، وأنّ أخذها “بروح رياضيّة” هو الحل لهذا التوتر المستمر. هذه المنصات لا تعبر عن الواقع كلّه، ولا يجب عليك التعامل معها على أنّها كذلك.

وهذا الجزء الصعب برأيي، والذي يسهّله فهمك لبنية المنصّات هذه وطريقة عملها. فكيف ستأخذها بهذه الجديّة، وأنت تعلم أنّها تعجّ بالحسابات الوهميّة والترولز والمختفين خلف أقنعة سهلة التجديد؟

التفسير الثاني: حجرات الصدى – Echo Chambers

تشكّل حجرات الصدى مساحات اجتماعيّة تسود فيها نفس الآراء والتوجهات، ما يؤدي في النهاية إلى تطرّف هذه الآراء ووصولها لمرحلة ترفض الآخر قطعاً، بل تستغرب أحياناً من وجوده. وعلى الرغم من أنّ خوارزميات التواصل الاجتماعيّة الآليّة تساعد بشدّة على بناء هذه الحجرات وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تجانس الموجودين فيها، فهي في الواقع برأيي تخلق فئتين من الناس داخل هذه الحجرة.

الفئة الأولى تجد من التجانس الموجود في هذه الحجرة مساحة آمنة، ومع تضخّم هذه الحجرة، وتكرار الأفكار فيها، قد يصل الشخص لمرحلة يعتقد فيها أن ما يتكرر في هذه الحجرة هو الواقع.

لذا تجد الكثير من الأفكار المتطرفة كالعنصرية والإيمان بالتفوق العرقي، موجودةً لدى أشخاص لا تواصل لهم مع أحد خارج حجراتهم، وأن نظرتهم للواقع سترتبط أيضاً بما يقرأونه ويرونه ضمن هذه الحجرات، كاعتقادهم أنّ كلّ شخص من ثقافة مغايرة هو قنبلة موقوتة، أو شخص مستعد لتنفيذ هجوم عدائي، رغم أنّ الواقع مخالف لهذا تماماً.

أما الفئة الثانية فتجد في هذه الحجرات طريقاً سهلاً لبناء السمعة، فهم على حدود الحجرة، وعلى احتكاك مستمر مع الخارج، بغض النظر عن مدى صلاحية أفكارهم أمام حجج الآخرين، يكفي أن يرى أصحاب الفئة الأولى شخصاً يذود عن معتقداتهم، ويرد على الإدعاءات بثقة.

عندما تنظر لتجمعات الناس العامّة على السوشال ميديا، ستجد هذه البنية موجودة في مجموعات المحرومين جنسياً – Incels والحبة الحمراء – Redpill وأخواتها الزرقاء والسوداء، وتجمعات اليسار واليمين السياسيّ، والمثلية الجنسية والنسوية والذكورية، وحتى في تجمعات معجبي أعمال فنيّة معيّنة يربطها البعض بأساليب حياتهم وتفكيرهم، كتجمّعات محبي الأنمي والأفلام والروايات، وقد تجد البنية ذاتها في تجمعات أكثر تقنيّة كتجمعات التيك بروز والعملات الرقميّة ومهووسي الأعمال وسوق المال.

في كلّ من تلك المجموعات، أكثرية تبحث عن مكانٍ تنتمي له، وأقلّية “مؤثّرة” تبقى على احتكاك مع العالم الخارجي، لتشدّ المزيد نحو التجمع، أو لتكسب المزيد من الرضى ممن في داخله.

وبغض النظر عن الجانب العقائديّ، ستجد الكثير من بائعي الكلام – Grifters الذين لا يؤمنون حقاً بما يقولون، بل يجدون من في تلك التجمعات فريسة سهلة للحصول على الانتشار المطلوب.

المشكلة في حجرات الصدى أنّها تشجّع من في داخله ميل لحب الظهور على الاعتماد على الاستفزاز والأدلجة لكسب نقاط الإنترنت، ولتحصيل الأرقام، وترى هذا في كثير من الناطقين بأسماء تلك الحجرات والطائفين حولهم، وفي كثير من الأحيان، من يقوم بهذا لا يقوم به عن قناعة وبحث، بل عن رغبة بالظهور والتشجيع من نظرائه.

هل أنت داخل حجرة صدى؟

رغم أنّ الإجابة على هذا السؤال قد تبدو بديهيّة، فتعريف حجرات الصدى واضح، ويتطلب انفصالاً واضحاً عن الواقع، لكن من الصعب على شخص يعيش في حجرة صدى إدراك ذلك لأنّه يرى “النخبة” تذود عمّا يتكرر من تلك الأفكار داخل الحجرة – وكيف يمكن لهذا التجمع أن يكون حجرة صدى؟ فها هو يتعرض للنقد، ويحتكّ بالآخر.

أضف لهذا حقيقة أنّ أغلب مستخدمي الشبكة لا يتصفحّون منصّة واحدة ولا يمتلكون اهتماماً واحداً فحسب، لهذا يصعب عليهم تمييز غرقهم في حجرة ما عندما ينظرون لاستخدامهم لمنصات متعددة، وخوضهم في تجمعات متعددة، فكيف يمكن أن يكون الشخص غارقاً في حجرة صدى، وهو على تماسٍ مستمرٍ مع تجمعات رقمية مختلفة.

لكن في الحقيقة، لا يتعارض أيّ من هذين الأمرين مع الغرق في حجرة الصدى، فمن الممكن أن تتابع “نقاشات” النخبة وأن تكون فاعلاً في مجتمعات رقميّة مختلفة، وتبقى محصوراً في تلك الحجرة. ويمكنك تصفح الإنترنت وحتى أن تكون فعّالاً في مجتمعات عديدة، قد تكون غارقاً في حجرة صدى مرتبطةٍ بواحد منها.

كعلامةٍ دالّة على الغرق، إن كان كلّ المحتوى الذي يظهر لك حول موضوعٍ معيّن، لنقل عن الذكورية أو النسوية مثلاً، قادماً من منظور المتحدثين باسم ذاك الطرف أو المعادين له دوناً عن غيرهم، فأنت غالباً في حجرة صدى.

وإن كان كلّ المحتوى الذي يظهر لك من نوعيّة “فلان يدمر، وفلان يفكك، وفلان يقضي على” حجج الطرف الآخر مرفقاً بمونتاج وموسيقى وعبارات رنانة، فأنت حتماً غارق في حجرة صدى.

والخطوة الأولى لتخرج نفسك من ذاك المأزق هو أنّ تدرك موقفك ومدى تأثيره على تصرفاتك وأفكارك.

كيف تخرج من حجرة الصدى؟

كما أسلفت، الخطوة الأولى دائماً تقتضي فهمك وتحديدك لكونك عالقاً في غرفة صدى أم لا، وعليك مصارحة نفسك بهذا. فكّر باختلافات نظرتك للناس من حولك، ما سببها، وكيف ارتبطت هذه النظرة المختلفة بما تستهلكه من المحتوى ومن تحيط نفسك بهم. 

فكّر بما يظهر لك على منصات السوشال ميديا، والمشاعر المرافقة لهذا. وأجب على سؤال مهم: هل أجد نفسي “منتمياً” لجماعة عن دونها على الشبكة؟ هل لديّ “إخلاص” لهذه الجماعة؟ هل ترتبط هذه الجماعة بأفكاري وتطلعاتي وتصرفاتي على أرض الواقع مع أناس لا علاقة لهم بالشبكة أصلاً؟

إجابتك على هذه الأسئلة بصراحة ستساعدك حتماً في فهم مكانك في تلك الحجرة، وبعدها يمكنك البدء بأخذ خطوات عملية، كالتعرض للأفكار المقابلة من وجهة نظر أصحابها لا من وجهة نظر معاديها، وأن تبدأ بتشكيل نظرتك الخاصة عن الأمور، سواء كانت مبنية على قناعاتك الدينية، أو أبحاثك الشخصية، أو غيرها.

اقرأ أيضاً: مقالي السابق حول الجماعات الرقميّة

ولا تقل لنفسك أن البودكاستات والفيديوهات القصيرة والمقاطع الساخنة والمختصرة من النقاشات كافية لتشكيل رأي ما حول أي شيء، حاول دائماً القراءة والتوسع في الموضوع، والنظر له من كلّ جانب ممكن.

تذكّر أنّك لست مجبراً على إبداء الرأي بكلّ موضوع، أو المشاركة في كلّ نقاش، أو الانحياز لأي طرف. يمكنك معالجة هذه الأفكار بينك وبين نفسك وبين أصدقائك دون أن تصدح بها على الملأ.

التفسير الثالث: البحث عن الذات

مع اختلاف الثقافات والديانات والأعمار والتوجهات السياسية ومستويات الثقافة والذكاء وغيرها، تبقى أسئلة الانتماء والقيمة الذاتية والمعنى من الحياة والقدرة على التأثير أسئلة عالقة لدى كثير من الناس، خصوصاً في المراحل الأولى من النضوج، وعلى الرغم من أن إجابات هذه الأسئلة مختلفة وواسعة باختلاف واتساع التنوع البشريّ، فإن نسبة من الناس ستميل دوماً للإجابات السهلة.

هذا ما يحصل في كثير من الأحيان في الجماعات – Cults، فالمنتمين لها ليسوا جهلةً بالضرورة، ولا يدل وقوعهم في فخ جماعة مستغلّة ومدمّرة على نقص في ذكائهم، فما أكثر المهندسين والأطباء والمفكرين العالقين فيها، لكنّها في كثير من الأحيان تجيب على أسئلة عالقة ومهمّة لهؤلاء، فتقدم لهم مكاناً للانتماء، وتقدم لهم معنى لحياتهم، وتسمح لهم ببناء قيمة ذاتية معتمدة على دورهم في الجماعة.

تقدم منصات السوشال ميديا في المقابل إجابات سهلة بطريقة غير مباشرة، فهي، وعبر التلعيب – Gamification تضع المعنى ولو كان وهمياً للتواصل البشريّ، وتحوّل مشاركة الأفكار والنقاش من مهمّة ضرورية لبناء الشخصية، إلى لعبة فيها كاسب وخاسر وإلى وسيلة لتعريف القيمة الذاتية.

تُكسب هذه المنصات مستخدميها أيضاً مساحات للانتماء، وتجيب على سؤال الهوية باختصار واختزال، وتجعل تغيير الإجابة أمراً سهلاً ولا عواقب عليه.

هذا من أسباب ظهور الكثير من مؤثري “المساعدة الذاتية – Self Help” كما يسمّونها في الآونة الأخيرة، وسبب كون هذا المجال صناعة مربحة، فهو يلعب أصلاً على الرغبة الموجودة في العثور على دافعٍ للاستمرار، وهدف للحياة.

وهذا ليس بالجديد أو المقتصر على الشبكة، لكنّه اليوم أكثر “عدديةً وترقيماً” لما يقدّمه للمتابعين من أهداف ومعانٍ، كجمع المال أو مصادقة النساء أو الوصول لعددٍ معيّنٍ من المتابعين.

ولهذه الأسباب، أي سهولة الحصول على المعنى من خلال الأرقام والشهرة والظهور نفسه، لا استعجب إطلاقاً ظهور “مطاردين” لهذا النوع من الشهرة، ولو كان هذا على حساب صورتهم الذاتية أو قناعاتهم الدينية أو غيرها، وهذا ما تراه مثلاً في موجة مؤثري الحبة الحمراء الجديدة، والتي وصلت للجانب العربي من الإنترنت في الأشهر الأخيرة.

على عكس التفاسير السابقة، التي قدمت فيها نوعاً من الحلول، يصعب في هذا التفسير تقديم نظرةٍ مضادة، أو حتى طريقاً واضحاً يمكن أن يسلكه المرء ليجد ذاته، فالإجابة مختلفة باختلاف البيئة والثقافة والديانة والفرد نفسه.

لكن، إن كان عليّ تقديم “نصيحة” لمن يجد نفسه غارقاً في ما شابه، سواء برؤية منحرفة للواقع وتركيز مبالغ فيه على أهميّة الأرقام والشهرة، فهي أن ينظر في أحوال هؤلاء، سواء الجيدة منها أم السيئة، ويدرس هل هي  بالفعل إجابات مقنعة أم مجرد ملء للفراغ الداخليّ.

تعليق واحد

  1. صراحة اجد ان هذا المقال جيد وممتاز صراحة واشيد حقا للعمل الذي قمت به في هذا الفصل ولاصدقك القول لم اكن اعتقد انني سأكمله لكنه كان يشدني سطرا بسطر وها انا ارغب الان بقراءة جميع الفصول … طريقة كتابة ممتازة مع نظرة فاهمة ووواقعية للموضوع انتقاء مناسب ورائع للكلمات ابهرني كثيرا.. انا الان اكتب هذا وقد انهيت الفصل الاول فقط فما بالك بكيف ستكون روعة الفصول الاخرى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *