الفصل الثالث: الانفعال – Agitation
- رئيسية السلسلة
- الفصل الأوّل: مطاردة الشهرة – Clout Chasing
- الفصل الثاني: الرومانتيكيّة – Romanticism
- الفصل الثالث: الانفعال – Agitation
يمكن اعتبار نظريّة 90-9-1 من أشهر النظريات التي تدرس طريقة تفاعل المستخدمين مع المحتوى على الإنترنت، وتفترض هذه النظرية أنّه وفي كلّ تجمّع رقميّ يعتمد على المحتوى المقدّم من قبل المستخدمين، سيتوزّع هؤلاء المستخدمون في نسب غير متساوية على ثلاث فئات:
الفئة الأولى هي فئة المتابعين بصمت، أو المراقبين – Lurkers، تفاعل هذه الفئة مع المحتوى محدودٌ جداً ومقتصرٌ على الأدوات التي لا تضع ثقلاً محدداً على المشاركات الفرديّة للشخص، كالإعجابات التي لا تظهر الفرد في معزل عن المجموعة أو التصويتات المجهولة أو الاشتراكات أو غيرها من الأدوات المائلة للمجهوليّة.
الفئة الثانية هي فئة الناشرين أو المتفاعلين بمحدوديّة – Intermittent Contributors أو Posters بحسب نوع المنصّة، تتفاعل هذه الفئة مع المحتوى بشكل متقطّع، وتقدّم آراءها عبر الأدوات الفرعيّة للنقاش لا عبر أدوات طرح النقاش ذاتها، كتعليقات يوتيوب أو ريديت أو الردود على التغريدات في تويتر.
الفئة الثالثة هي فئة الصنّاع أو الناشرين الفاعلين – Contributors أو Creators، وهؤلاء عادةً هم أصحاب المحتوى الذي يدور حوله النقاش، وهم أصحاب الأصوات الأعلى في أيّ مجتمع رقميّ.
يتوزع هؤلاء على نسب مشابهة للنسبة المستخدمة في اسم النظرية 1 بالمئة للصنّاع، و9 بالمئة للناشرين، و90 بالمئة للمراقبين. قد لا تنطبق هذه النسبة على كافة المجتمعات الرقميّة، ولكنّها تشكّل “صورةً عامّة” عمّا يمكن ملاحظته في أيّ مجتمع رقميّ.
في المجتمعات الرقميّة، تبقى الخدعة الأكبر لإبقاء أيّ مجتمع فعّالاً و”على قيد الحياة” هي تحويل أكبر قدر ممكن من المراقبين وتحفيزهم للانتقال إلى فئة الناشرين أو المتفاعلين بمحدوديّة. فالمجتمعات الفعّالة قد تعبر عنّ نموّها عبر نموّ قاعدة المراقبين (زيادة الزيارات والمشاهدات والمتابعات) لكنّها تنمو في الأساس عبر نموّ قاعدة الناشرين والمتفاعلين (زيادة التعليقات والنقاشات حول الموضوع).
لكن تحقيق هذا التحويل ليس بالأمر السهل على الإطلاق، لهذا تجد نداءاتٍ أو طلبات اتّخاذ إجراء – CTAs في هذه التجمعات تنتقل دوماً من التفاعلات الأقلّ جهداً وتنتهي بتلك الأكثر جهداً “اترك إعجاباً واشترك بالمنصّة – ثم أخبرنا رأيك حول ما سمعته أو شارك مع أصدقائك”.
لأنّ التفاعلات التي تتطلب الجهد الأكبر تحتاج دافعاً أكبر من مجرد اهتمام الشخص بالموضوع أو رغبته بالإطلاع عليه. ونادراً ما تجد نداءاتٍ ليصبح المتابع نفسه صانعاً للمحتوى أو مساهماً أساسيّاً في المجتمع، فحاجز الوصول لهذا المستوى أعلى بكثير.
في السنوات الأخيرة، نجحت بعض الحركات الفكريّة وشركات التسويق الهرميّ وبعض التجمعات الرقميّة التي تميل في بنيتها إلى هيكل الطوائف أو الجماعات، باستغلال بعض الأساليب التي تعتمد على بنية المنصّات الرقميّة المختلفة لتحويل جزء كبير من المراقبين إلى صنّاع، أو على الأقل لمتفاعلين بمحدوديّة مع المحتوى.
لنا في تجربة أندرو تيت في الانتشار خير مثالٍ على هذا:
فقد استغل الصيغة المختصرة في تيك توك وريلز فيسبوك وشورتس يوتيوب: هذا المحتوى أكثر قدرةً على الانتشار بين الفئة العمرية الأكثر عرضة للفراغ (الأجيال الأصغر عمراً من مستخدمي الشبكة) وخوارزميات هذه الأدوات تعمل على تقديم المحتوى المماثل باستمرار للمتابعين.
وقدّم محتوىً قائماً تماماً على الصدمة – Shock Value وتحريض الانفعال – Agitation: وهو نوعٌ من المحتوى يدفع المستخدمين إلى التفاعل بالتعليق والرد سواء سلباً أو إيجاباً، ويخلق شرخاً واضحاً بين نوعي المستخدمين (نحن وهُم) لبناء مجتمع رقميّ من العدم.
وجمع مع هذين الأمرين الحافز الماديّ لمتابعيه عبر شبكة تتبع نظاماً أشبه بنظام التسويق الهرميّ، فهو يسمح باقتصاص مقابلاته وبودكاستاته وإعادة نشرها دون أيّ حقوق نشر، ويحضّ ناشري هذه المقاطع على الترويج لمنصّته التعليميّة التي يتقاضى عليها المال.
بهذا الشكل، يحصل أندرو تيت على جماعةٍ رقميّةٍ مخلصة بأقلّ تكلفة ممكنة وبأكبر عائد ممكن.
تحدثت سابقاً في هذه السلسلة عن مفهوم البنية التصميميّة للمنصات الرقميّة، ومدى تأثيره على أسلوب استخدامها، وتحدثت في مقال سابق بالتفصيل حول الجماعات الرقميّة ونقاط تشابهها مع الطوائف والجماعات الموجودة على أرض الواقع، لذا لا داعي لتكرار هذا. تركيزي الكامل في هذا المقال سيكون حول تحريض الانفعال في المحتوى الموجود على الإنترنت.
تعريف تحريض الانفعال
أعرّف شخصياً تحريض الانفعال على الإنترنت بكونه أداةً يستخدمها أصحاب المجتمعات الرقميّة وصنّاع المحتوى أو الناشرين الفاعلين في هذه المجتمعات (اختصاراً: رؤوس هذه المجتمعات) لإخراج الفئة الصامتة الأكبر عن صمتهم عبر التأثير العاطفيّ والخطاب الاستفزازيّ المباشر، ويكون هذا عبر ثلاث أشكال رئيسية:
مجتمعات الكراهية – Hate Following / Reactionary Following:
تركّز هذه المجتمعات على تحريض مشاعر الكراهية أو الانزعاج نحو موضوع أو شخص معيّن.
وقد تكون هذه الكراهية موجّهةً نحو رأس المجتمع نفسه (كحال مجتمع آيدبز Idubbbz في السنوات الأخيرة) أو نحو فئة خارج المجتمع ولا تتفاعل معه (مجتمعات اليمين واليسار السياسيّ والتجمعات المعتمدة على التماثل الثقافيّ وتشابه الهويّة، كمجتمعات التوجهات الجنسية ومجتمعات المعجبين بناطق سياسيٍّ ما).
تتميز مجتمعات الكراهيّة بكونها ترسم عدواً مشتركاً لكافة المستخدمين، وترسمه بصورتين متضادتين في نظر هؤلاء، الصورة الأولى هي كونه فريسة سهلة يسهل الرد عليها و”تدمير” حججها وهذه تشجع المستخدمين على “التجرؤ” على استهدافها، والصورة الثانية هي كونه مفترسًا شرسًا، يدمّر العقول وينشر الفساد بين الناس، وهذه تحرّض الناس على التكاتف والرغبة بالانتشار وتعزيز الصفوف ضد هذّا الشرّ الأكبر.
مجتمعات الهلاكيّة – Doomposting:
تركّز هذه المجتمعات على تحريض مشاعر اليأس والإحباط أو اقتراب الهلاك في المتابعين، عبر عرض جوانب سلبية من قضايا تهم أفراد المجتمع، ويتميز هذا النوع من المحتوى بطريقة عرض لا تقدّم حلولاً حقيقيّة ولا تدرس الأسباب الفعليّة لتلك الظواهر السلبية، وتركّز في تقديمها على استفزاز أكبر قدر ممكن من المشاعر والانفعالات الممكنة.
تتميز مجتمعات الهلاكيّة بكونها في كثير من الأوقات جزءاً من حجرة صدى أو هي بنفسها حجرة صدى، وتبالغ في التركيز على موضوعٍ معيّنٍ وتوليه أهميّة أكبر من حجمه، كما في مجتمعات الباحثين عن العلاقات العاطفية وبعض مجتمعات انتقاد التريندات الإنترنيتيّة كمجتمعات انتقاد استخدام المراهقين للتيك توك أو التركيز الفائق على فترات الانتباه ومعدلات الذكاء والذكاء الاصطناعيّ وغيرها.
في السنوات الأخيرة، ينجح الكثير من المحتوى المعتمد على مبادئ المنشورات الهلاكيّة في التنكّر والابتعاد عن الهلاكيّة المباشرة لكسب انتباه وتفاعل المزيد من المستخدمين عبر تجنّب المواضيع الأكثر إثارة للجدل والتركيز على مواضيع متّفق عليها بشكل واسع، ولكن يبقى يحافظ على الكثير من السمات التي يمكن تمييزها بسهولة، كفشله المقصود في البحث عن الأسباب والحلول وتقديم الظواهر من جوانب محايدة.
الفشل المقصود في الحديث عن هذه الظواهر هو عنصر أساسيّ لجذب تفاعل المتابعين وحضّهم على تقديم الرأي والرد على آراء المتابعين الآخرين لإثبات وجهات نظرهم.
يقع تحت مظلّة هذا النوع من المحتوى أيضاً نظريات المؤامرة برأيي، لكنّها ستكون محوراً منفصلاً للحديث في هذه السلسلة، لذا لن أتطرق لها حالياً.
مجتمعات استغلال الفقر والنيّة الطيبة – Poverty Porn:
ما يجب معرفته عن مفهوم استغلال الفقر هو أنّه ليس بالمفهوم الحديث، لا على الشبكة ولا خارجها، فالمصطلح الإنجليزيّ نفسه قادم من فترة الثمانينات في أمريكا حيث بلغت حملات الترويج للجمعات الخيرية ذروتها، وأصبحت تتفنن في تصوير أوضاع الفقراء والمحتاجين وتقديم المساعدة لهم بصيغة استعراضيّة لجذب المزيد من التبرعات.
أمّا على الشبكة، فهذا النوع من المحتوى بدأ مع بداية التواصل عبر البريد الإلكترونيّ والقوائم البريديّة، بصيغة “تريندات” تحضّ المستخدم على إعادة نشر أو إرسال الرسالة لنشر التوعية حول قضيّة خيريّة ما أو بحجّة كسب الثواب والأجر، وانتقلت هذه التريندات لشبكات التواصل الاجتماعيّة مع ظهورها.
وعلى الرغم من اكتساب السواد الأعظم من مستخدمي الإنترنت الخبرة الكافية لتمييز هذا النوع من المنشورات التي تستغل التعاطف والنية الطيبة للمستخدمين في الانتشار وتحقيق الوصول، إلا أنّها ما تزال حتّى اليوم سبيلاً مضموناً للانتشار خصوصاً بين الفئة الأكبر عمراً من المستخدمين.
ولم يكن من الغريب استغلال الكثير من صنّاع المحتوى وأصحاب المجتمعات الرقميّة لهذا النوع من المحتوى، وتطويره ليصبح أكثر ملائمة للمستخدم الحديث للشبكة، ومن ثم بناء مجتمعات كبيرة مدمنة عليه عبر استغلال معماريات الشبكات الاجتماعيّة وخوارزميّاتها.
ظهرت في السنوات الأخيرة تريندات كثيرةٌ تعتمد على هذا النوع من الممارسات الخيرية والمواضيع المستغلة للنية الطيبة للانتشار، كالمحتوى المشابه لمحتوى مستر بيست، والتريندات الخيرية التي أصبحت الآن محطّاً للسخرية، كتريند Double it and give it to the next person.
نظرة على تحريض الانفعال
أهمّ ما يجب الحديث عنه برأيي بخصوص تحريض الانفعال واستغلال الكثير من رؤوس المجتمعات الرقميّة له في إبقاء مجتمعاتهم حيّةً عبره، هو أنّ أهمّ أسبابه هو قدرة استغلال هؤلاء لأدوات المنصات الرقميّة وخوارزميّاتها للتلاعب بطريقة تفاعل المستخدمين مع المحتوى.
هذا لا يعني أنّ كلّ هذه الميّزات مصممّة لتستغلّ بهذه الطريقة، فصحيحٌ أنّ المنصّات الرقميّة بمجملها ترغب أيضاً بإبقاء المستخدم مرتبطاً بالمنصّة ومتفاعلاً معها لأطول فترة ممكنة، إلا أنّ الأهداف المشتركة تنتهي هنا. فليس من مصلحة أغلب منصّات المحتوى الرقميّة التي تعتمد على بناء المجتمعات، أن يكون الوضع النفسيّ لأعضاء هذا المجتمع منفعلاً ومستثاراً باستمرار.
على سبيل المثال، هناك بعض الإشارات لكون خوارزميّات تويتر تدفع المستخدم للتفاعل مع المحتوى المسبب للاستفزاز باستمرار، لأنّ المنصّة بالمجمل تعتمد على هذا النوع من التفاعلات لبناء التجمّعات الرقميّة.
أمّا يوتيوب فتحاول قدر الإمكان تقديم المحتوى الذي يبقي المستخدم أمام الشاشة لأطول مدّة ممكنة، وتكافح بشكل مستمرّ الانفعاليّة على المنصّة – وصل هذا لحد إلغاء أرقام التقييم السلبيّ للمحتوى من الواجهة لتجنّب حملات التنمّر والتحريض على الصنّاع.
هذا لا يعني أن أهداف يوتيوب خيرٌ من تويتر، فكلاهما يريد زيادة النفع القادم على المنصّة من مستخدميها، لكن يعني أن الأولى تساهم في انتشار المحتوى الانفعاليّ، بينما الأخرى تكافحه، ولو كان موجوداً على كلتيهما.
موت المنصّات / المجتمعات الرقميّة
نقطّة مقارنة أخرى مهمّة للتمييز بين تعامل المنصّات والمجتمعات الرقميّة مع المحتوى، هو معرفة ما يسبب موت كلٍّ منها، فصحيحٌ أن المنصّات الرقميّة هي الحاضنة الافتراضيّة للمجتمعات الرقميّة، إلا أنّها لا تموت بموتها إلّا في حالات نادرة.
في حالة المجتمعات الرقميّة، انخفاض التفاعل والاهتمام من المتابعين والمتفاعلين والصنّاع هو ما يؤدي للموت. أما في حالة المنصّات الرقميّة فهجرة قاعدة المستخدمين لمنصّة منافسة أو بديلة هو ما يتسبب بموتها.
حركة المستخدمين ضمن المجتمعات المختلفة ضمن المنصّة نفسها أو عبر المنصّات التي لا منافسة حقيقيّة بينها هي حركة طبيعيّة لا تؤثّر إجمالاً على سياسات المنصّة، لذا يندر حصول حركة في منصّة تستهدف تحديداً عزل أو تمكين فئة معيّنة من المستخدمين على حساب الأخرى واستفزاز المستخدمين باتّجاه معين محض نظريّة مؤامرة في كثير من الأحيان، إلا في حالات قانونية، كحركة يوتيوب لإزالة المحتوى المشجّع على الإرهاب مثلاً.
وتركّز الحركات الضخمة في المنصّات على تلك التي تجذب قاعدة المستخدمين من منصّة منافسة، وهو ما نراه في حركات منصّات البثّ المباشر اليوم التي تحاول منافسة تويتش، والميزات التي تقدمها للمستخدمين في هذا السياق لجذبهم.
افتراض العديد من الناس لانحياز الخوارزميات نحو أيديولوجيّة معيّنة أو توجّه سياسيّ أو اجتماعيّ معيّن هو محض فهم خاطئ لما يحدث، فالواقع هو أنّ هذه التوجهات تستغل الخوارزميّات المصمّمة لأهداف أخرى للانتشار في كثير من الأحيان، لا العكس.
قد تكون المنصات أو القائمين عليها منحازين لجانب ما، لكن الخوارزميات تصمم غالبا لتحقيق أكبر قدر ممكن من التفاعل والعائد المادي على المنصة، ومن مصلحة هذه المنصات وجود تعارض مستمر بين الآراء دون دعم أحدها ضد الآخر، فطالما تجري المعارك على أرض المنصة، ستبقى مكاسبها موجودة.
تفسير تحريض الانفعال
أذكّر مجدداً بالمبدأ الأساسيّ المرتبط بالحديث عن التفسيرات والتبريرات في هذه السلسلة: أغلب المشاكل التي سأتعرض لها لا مصدر واحدًا لها، ولا تفسير قاطع ينطبق على كلّ حالاتها، فهي إضافة لكونها حالةً بشريّةً مميزة، يمر بها كلّ شخص في سياقه الخاص، تخضع لقواعد مختلفة باختلاف المكان الفيزيائي والرقميّ لمن يمرّ بها.
فعلى سبيل المثال، لن تتشابه تجربة مراهق عربيّ بتجربة مراهق أمريكي ولن تتشابه تجربة كلّ منهما بتجربة مراهق شرق آسيويّ، فلكلّ من هؤلاء عوامل مختلفة تؤثّر على تجربته، وكلّ منهم يعيش في كون مختلف عن الآخر، رقميّاً وجغرافيّاً.
من زاوية المحرَّض (الخاضع للتحريض)
قبل انتقادك لمن يقع في فخ الانفعال والاندفاع الدائم للمشاركة بآرائه وأفكاره على الشبكة دون تفكير أو تحضير، تذكّر أن المحتوى الذي أوصله لهذه النقطة مصمّمٌ لدفعه بذاك الاتجاه، وأن هذا لا يقتضي بالضرورة الجهل أو الضعف النفسيّ أو انعدام الخبرة.
الحقيقة الأولى التي عليك أخذها بعين الاعتبار هو أن المواطن الرقميّ العاديّ الذي يتصفح الشبكة ويشارك في مجتمعاتها الرقميّة ويستخدم منصّاتها لا يركّز أصلاً في تبعات مشاركاته ولا تأثيراتها، لا على نفسه ولا على المجتمع من حوله.
الحقيقة الثانية هي أنّ المواطن الرقميّ يستخدم الشبكة استخداماً يومياً لإشباع حاجاتٍ نفسية، سواء كانت إسكاتاً للملل، أو بحثاً عن مكانٍ للانتماء، أو رغبةً بالتواصل، وهذه كلّها رغبات مرتبطة بالمشاعر والعاطفة، لا بالحقائق والمعلومات الجامدة والبحث عن الأدلّة والبراهين.
الحقيقة الثالثة هي أنّ الإنسان مجملاً يبحث عن قضايا يمكنه الدفاع عنها ويمكنه عكس شخصيّته وقناعاته وإيمانه عبر الدفاع عنها، ويسهل تحويل هذه القضايا كما أسلفت لمنبع للانفعالات اللحظية عند تقديمها بصيغة تستثير ردود الأفعال وتركّز على تأجيج المشاعر.
هذا لا يعني أنّ آراء هؤلاء الناس وتصرّفاتهم لا معنى لها أو أنّ رؤاهم لا تعبّر عن الحقيقة، فقد تكون القضايا التي ينفعل لأجلها هؤلاء محقّة ولا غبار عليها. ولكن ما يعنيه هذا هو أنّ تعامل هؤلاء مع هذه القضايا قادم من زاوية خطأ ومستغلٌّ لدفع مصالح لا علاقة لهم بها.
هذا لا يعني أيضاً أنّ هؤلاء معصومون من الذنب ولا مسؤوليّة عليهم في انتشار هذا النوع من المحتوى والمصالح المرتبطة به. ولكن يعني أنّ المسؤولية مشتركة بينهم وبين صنّاع المحتوى ورؤوس المجتمعات الرقميّة المستغلّين له، وأنّه ومع زيادة الوقت الذي يقضيه المواطن الرقميّ بالعيش على الشبكة، عليه أن يتقن أكثر الأساليب المخادعة الموجودة عليها.
من زاوية المحرِّض (الدافع للتحريض)
من السهل جداً فهم الدافع للتحريض، فهو كما في حال مطاردة الشهرة سبيل سهل للوصول إلى أكبر جمهور ممكن.
يضاف إلى هذا، أن القضايا المستغلّة في تحريض الانفعالات في كثير من الأحيان، هي قضايا تسمح لأصحاب هذا المحتوى بادعاء الفوقيّة الأخلاقيّة والكمال الفكريّ، والدفاع عنها لا يضمن الشهرة فحسب، بل شهرة مرفقة بالاحترام والتقدير من المجتمع.
يسهل في كثير من الأحيان على صنّاع المحتوى ورؤوس المجتمعات الرقميّة الغرق في هذا النوع من الاستعراض، فالتركيز على جرّ الانفعالات ينمّي جمهوراً ومجتمعاً هشّاً سهل الانقلاب، ويكثر في هذا النوع من المجتمعات معاداة رؤوسها على أقلّ الخلافات، وهذا يعني أنّ أيّ محاولةٍ للخروج من هذه البيئة ستفضي إلى انهيار اجتماعيّ لذاك الصانع.
لذا يبقى هؤلاء مشدودين بين تلك النقاط الثلاثة: حبّ الشهرة، والاستعلاء الأخلاقي، والخوف من الإقصاء المجتمعيّ.