الميتا والمفهوم – سلسلة كتابة القصص [4]
لنفترض وجود القصّة التالية:
“أحمد، طفل في قرية بعيدة عن المدينة، بعد أن رآه حكيم القرية يسرد قصصاً سمعها من والديه، يلهب فيها مشاعر أقرانه من الأطفال ويحفّزهم فيها على التعلّم والعمل، أخذ على عاتقه تعليمه الكتابة، ليساعده على تحقيق حلمه المستقبليّ في سرد قصّة ملهمة، تبعث في قلوب أهالي القرية وما حولها من القرى حبّ التعلّم.
في يوم من الأيّام يأتي قادمون من المدينة، ليبدأوا بتحويل قريته الصغيرة لمستعمرة مدنيّة أخرى، ويؤثّر هذا على حلم أحمد في كتابة قصص تعلّم الأطفال الآخرين القراءة، فالتعليم أصبح إلزاميّا، وأساليب حكيم القرية في تعليمه أصبحت بائدة بحسب تعابير معلّمي مدرسته. بهذا لا يعود لحلمه في سرد قصّة تلهم الناس وتحفّزهم للتعليم مغزىً، فالتعليم إلزاميّ، وما تعلّمه من أساليب قَدُمت وبليت.
ينهي أحمد سنواته الدراسيّة، ومع كلّ سنة تمضي، تلتهم المدينة المتطفّلة على قريته الصغيرة أجزاءً أكبر منها، ومعها تلتهم المدرسة جزءاً من روحه المعنوية، وحبّه للكتابة.
يتابع أحمد حياته، وينسى حياة القرية، يتزوج وينجب أطفالاً، وبعد أن يدخل طفله المدرسة، يُدرك أنّ التعليم الإلزاميّ لا يعني أنّ رغبة الطلاب بالتعلّم ستخلق من العدم، ويرى تأثير هذا في طفله. يرى أيضاً أنّ النظام الحديث يفتقد الرّوح التي كان يضعها الحكيم في تعليمه، وبهذا يعود له الشغف.
يعود أحمد لحلمه، هذه المرّة ليكتب قصّة ملهمة لطفله وأقران طفله، مُحبِّبًا إليهم التعلُّم، كما كان يفعل سابقاً.”
لنفترض الآن أنّ كاتب هذه القصّة، تربّى في قريةٍ عاش فيها حلمَ كتابة قصّة ملهمة، ثم سافر للمدينة التي حطّمت آماله في هذا، وعاد الآن ليكتب لنا هذه القصّة.
في هذه الحالة، الميتا – Meta هو أنّ القصّة هذه تحكي لنا قصّة “كتابة القصّة”.
أما المفهوم – Subtext، فهو أنّ هذه القصّة لا تحكي فقط قصّة الكاتب أو قصّة أحمد الراغب بكتابة قصّته الملهمة فحسب، بل تحكي عن التمدّن والاستعمار والبلوغ أيضاً – فهي، وبمعاني ما بين السطور الموجودة فيها، قابلة للفهم والتفسير على كلّ تلك المستويات.
الميتا – Meta
يعرّف الميتا في السياق القصصيّ على أنّه “سردُ قصّةِ سردِ القصّةِ” أي أن يكون العمل مشيراً لذاته بشكل من الأشكال. على سبيل المثال، إشارة موراكامي في سبوتنيك الحبيبة إلى صعوبات كتابة القصّة، ملمّحاً إلى ما يعاني منه هو من صعوبات أثناء كتابته للقصص. (في مثال آخر، إشارة طارق موصلي في روايته، إلى روايته ذاتها، نوع من الميتا).
الميتا المقصود آنفاً يختلف عن ما وراء السرد – Metanarrative، وهو ما يعبّر في نظريّة النقد عن المفاهيم السرديّة القادرة على تفسير كلّ شيء، كالديانات والنظريات الفلسفيّة التي تَعِد دارسيها بتقديم فهمٍ عامٍّ شاملٍ عن العالم.
قد يقصد أحياناً بوصف قصّة ما بأنّها “ميتا” وجود “فهم أعلى” لما تحاول قوله، وهذا تعبير خطأ – التعبير المرتبط بالفهم الأعلى هو المفهوم – Subtext.
المفهوم – Subtext
المفهوم هو الفحوى الممكن استقاؤها من النصّ دون تصريح مباشر من الكاتب أو شخصيّات القصّة بوجوده، كإمكانيّة تفسير موازية للفهم الأوَّليّ وتتخطى الظاهر، سواء كان هذا الفهم ممكناً بقصدٍ من الكاتب أو دون قصد. على سبيل المثال، عندما تقرأ قصّة ملك الخواتم، يمكنك فهمها أيضاً كقصّة مقاومة ضد الاستعمار، أو كقصّة حرب بين الإنسان والطبيعة، أو كرحلة بلوغ – Coming of age لفرودو، على الرغم من أنّ القصّة -وشخصيّاتها- لا تصرّح بأيّ من المضامين السابقة. يمكن استيعاب المفهوم – Subtext عبر ربط الأفكار ومقاربتها.
المفهوم – Subtext هو المقابل للمنطوق – Text، وهو ما يدلّ عليه النصّ مباشرة، أو ما يدور على لسان الشخصيّات – كالقصص التي تسرد أحداث استعمار بلد، هنا لا يعود الاستعمار “مفهوماً” في هذه القصّة، بل يتحوّل لمنطوق فيها. أمَّا المفهوم – Subtext فهو الدلالة اللازمة من النصّ.
الميتا والمفهوم وجودة القصّة
أقولها كثيراً في هذه السلسلة، وجود أداة قصصيّة أيّاً كانت لا يعني سوء أو جودة قصّة ما، بل يعني ببساطةٍ أنّ هذه الأداة موجودة، جودة استخدام الموجود هذا يعود إلى قدرة الكاتب على استغلال الأداة في إيصال ما يريد.
ولكن، يمكن القول إنّ احتماليّة إساءة استخدام المفهوم – Subtext -خصوصاً عندما يحاول الكاتب حشره إراديّاً في نصّه- أكبر بكثير من احتماليّة إساءة استخدام الميتا – Meta، فهو أداة دقيقة، الإكثار من دلائل ربط نصّ ما برسالة خفيّة، يدفعها لتصبح رسالةً علنيّة فينقلب ما أراده الكاتب مفهومًا إلى منطوق، كما يفعل جيمس كاميرون في فيلمه “أفاتار” حيث يغرق الفيلم في إشارات لحرب الإنسان على الطبيعة والاستعماريّة، حتّى يكاد ينطق هذا مباشرةً على لسان الشخصيّات.
أسوأ ما يمكن حصوله عند إساءة استخدام الميتا – Meta هو الفشل في إيصال الفكرة ذاتها، أمّا أسوأ ما يمكن حصوله عند إساءة استخدام المفهوم – Subtext هو تحوّل القصّة من “قصّة” إلى “بروبغاندا” مثيرة للغثيان، فضلًا عن وقوع الكاتب فيما ذكرناه من نقض المفهوم نفسه وتحويله إلى منطوق مع بقاء نية الكاتب الأصلية في جعله مفهومًا، وهذا ما يخلق تصادُمًا داخليًّا في القصة يعبثُ بالكيفيّة التي ينبغي أن يتلقاها المتلقي على أساسها.