
ما الذي نريده [نحن السوريّون] حقاً؟
أراقب في الآونة الأخيرة المساحة السياسية السوريّة العامّة بهوس شديد، جزء من هذا الهوس في معرفة “صوت الشعب” نابعٌ من سنواتٍ طويلةٍ تجنّبت فيها الخوض في هذه النقاشات في المساحات العامّة، وقد ظننت أنّه وبعد سقوط النظام سأعود بنهمٍ إلى النقاش الذي حرمت منه، إلا أنني وبعد أشهرٍ من التحرير، أجد نفسي عند عادتي القديمة في تجنّب الخوض في أغلب النقاشات.
لا يكاد يمرّ يومٌ في الساحة السوريّة منذ سبعة أشهر دون خبر جديد تتراوح خطورته بين الاغتيالات والتصفية والانتهاكات ويصل حدّ السخافة أحياناً لتحوّيل ملاسنة بين شخصين في الشارع إلى تريندٍ على السوشال ميديا – “سوريا تريند في كل شيء” كما يقول الشرع. وهي كذلك بالفعل.
يطغى على الساحات التي تخوض في السياسية السوريّة اليوم على الإنترنت أنّ جلّ من فيها غير سوريين، والسوريوّن حقاً ممّن فيها يمثّلون مواقف متطرّفةً جداً بكلّ الاتجاهات، قد تتفق مع رأي الشارع في نقطة واحدة أو لا تتفق، وإدراكها لطريقة التأثير على هذا الشارع معدوم = ما يعني أنّ احتمال تأثيرها عليه شبه معدوم.
يطغى على المساحات الرقمية بعمومها أيضاً أن من يكتب فيها يغرق في التمنيات والخيالات، ويندر في هذه المساحات التحليلات الصادقة النابعة من نظرةٍ محايدةٍ للماضي ومحاولةٍ فهم المستقبل، واعتراف بالأخطاء ومحاولاتٍ للتصحيح والتصويب – بل يندر في هذه المساحات حتّى تحرّي الصدق والمعلومات الصحيحة، ولا يفكّر غالبيّة من ينشر لثانيةٍ واحدةٍ قبل بناء تحليلاتٍ كاملةٍ وقصورٍ في الهواء من معلومات شاردة أصابته ووجد فيها ما يوافق خيالاته الجامحة.
وفوق هذا وذاك، تجد القولبة حاضرةً في كلّ شيء، فكلّ مشكلةٍ وكلّ حلٍّ للمشكلة ذاتها نابعٌ ومنوطٌ بذات الشيء، يلفّ ويدور حول فكرة واحدة، يبشّر بها صاحبها في كلّ مناسبة: اللامركزية، الديمقراطية، التطبيع، المقاومة، العمق العربي، العمق الغربي، السلام، الحرب، الملحمة الكبرى، الحرب الطبقية، الحرب المناطقية، الريف والمدينة، الشرعية واللاشرعية. كلّ يغنّي على ليلاه: لكنّ الخلاصة دائماً أنّ المشكلة س والحلّ ص – صدفةٌ فقطّ أنّ س ما أكرهه في شكل الحكم الحالي، وص ما أرغب به وما يحقق لي أكبر منفعةٍ ممكنة.
وضع فوق ذلك كلّه الهذيان الذي يعيشه مؤيدي الأسد الذين فقدوا فجأة كلّ خصوصيّاتهم وأصبحوا للمرّة الأولى مضّطرين للتعامل بأسماء وهميّة مع أسماء وهميّة أخرى، بسخرية انكساريّة سوداويّة في أحسن الأحوال، يرفق فيها كلّ تصريح ب”ههههه” والكثير من الإيموجيهات الضاحكة في محاولةٍ فاشلة لادّعاء الصلابة النفسية والحياد وكراهية “الطرفين” وفي أسوأ الأحوال بعبارةٍ تهدف للإيذاء النفسي، لكن لا تنفع سوى في إظهار البؤس والإجرام كالتشفّي بشهداء صيدنايا ومفقوديه، أو استحضار القتل والبراميل والدمار.
والكرزة على الكعكة كما يقول الغربيّون: بعض معارضي الأسد السابقين ممن بدأوا فقدان صوابهم بعد أن تحررت سوريا على يد فئةٍ لا يحبّونها وبصيغة لا يرغبون بها، وبدون أي تمثيلٍ لهم على الأرض وبدون أيّ قوةٍ لا ناعمةٍ ولا غيرها وبدون أيّ تأييد شعبيّ حقيقيّ لما جعلوا حياتهم متمحورةً حوله يريدون “إسقاط الشرع” ولو على الورق، حتّى تتاح لهم فرصة تطبيق ما يرونه مناسباً للبلاد – ولو كان هذا معاكساً باعترافهم لما يريده جلّ الشعب “الجاهل”.
في هذا الوسط النقاشيّ المرّ: لا يسعك أن تتخذ أيّ موقفٍ على العلن دون أن تصنّف ضمن فئةٍ لا تصلح لك كإنسان حقيقيّ يحمل في قلبه وعقله أراء معقدة ورؤية متشابكة للعالم ككل والثورة على وجه الخصوص، ولإظهار هذه الرؤية، لا تكفي المساحات الرقمية وقصف الجبهات فيها ولا التغريدات القصيرة اللاذعة الساخرة؛ بل تحتاج لمساحة ما لتشرح “ما تريد” كسوريّ أن تراه.
طبقات وطبقات من الأهداف الوسيطة
قبل أن أخوض في ما أريده أنا كسوريّ، أردت الوقوف على نقطةٍ تتعبني في أيّ نقاشٍ كان مع أيٍّ كان في أيّ سياقٍ كان: عندما أسأل أحدهم عن هدف ما يقول، فيجيبني بنقطة وسيطة، لا تصف هدفه الحقيقي.
خذ هذا المثال: تسأل أحدهم ما الذي ترغب بتغييره في علاقتك مع والديك، فيجيبك: أريد لوالدي أن يجلس معنا في كلّ أسبوعٍ مرّة ويكتب في دفترٍ كلّ طلباتنا. فتسأله لماذا؟ ليجيبك أنّه يريد من والده هذه الطلبات، وهو يضع طلبه “للدفتر” كخطوة لتحقيقها.
هو في الحقيقة لا يهتمّ بالجلسة الأسبوعيّة ولا الكتابة على الدفتر بحدّ ذاتهما، فهما وسيلة لهدف، لكنّه يرى أنّهما الوسيلة الأفضل ليصل لهدفه النهائي.
عندما أخوض نقاشاً سياسياً مع أحدهم ويكون تركيزه على النقاط الوسيطة بدلاً من ذكر ما يريد تحقيقه في النهاية، أو أقرأ كلام أحدهم ويظهر جلياً من خلال كلامه أنّه إمّا لا يفقه الهدف النهائيّ من طلباته أو يحاول إخفاءه، فإن قيمة هذا الكلام تنخفض في نظري تلقائياً ويصعب عليّ أخذ قائله بجدّية.
هل الديمقراطيّة هدف أم وسيلة؟ سيقول غالبا وسيلة، إذاً هي وسيلةٌ لماذا؟ لمنع الاستبداد؟ لحماية الحريّات؟ لضمان فرصتك -وحزبك- المستقبلية في محاولة الوصول للحكم؟ كلّها بنظري أهداف مقبولة، لكن عليك أن توضّحها لا أن تدور في دوّامات الخطوات الوسيطة للوصول إليها.
ما أهميّة هذا؟ لأنّ اتّفاقنا على الأهداف النهائيّة وتفاهمنا عليها وإمكانيّة “تحزّبنا” بناءً عليها إن صح التعبير، ممكن وبشدّة، عكس اتّفاقنا وتفاهمنا على الخطوات الوسيطة.
ومثالٌ بسيطٌ على هذا، ما فقدناه بعد سقوط النظام هو هذا الهدف النهائيّ المشترك الذي جمعنا: رحيل الأسد، وهو الهدف الذي جمع أشخاصاً من أقصى اليمين وأقصى اليسار على قلب واحد.
ما أريده أنا
جلست قبل أسابيع مع صديقٍ لي وسجّلنا جلساتٍ لوثائقيّ يعمل عليه عن السوريين المغتربين، وبين الجلسات خضنا نقاشاتٍ طويلة حول السياسة السوريّة على العموم، وبعض ما أراه فيها شخصياً، ومن الأسئلة التي طرحها عليّ “ما أفضل ما يمكن أن تكون عليه سوريا بعد سقوط النظام” وهو سؤال في الحقيقة يلفّ ويدور في فلك “ما الذي تريده من سوريا” – فأنت كإنسان طبيعيّ، ترى أنّ ما تريده هو ما أفضل ما يمكن أن تكون عليه سوريا – بديهياً.
قد تظهر إجابتي على هذا السؤال في الوثائقي وقد لا تظهر، لكن لحفظ المعلومة قبل أن تطير: أجبته بخليط من النقاط الموجودة أعلاه، خصوصاً تلك المتعلقة بالنقاط الوسيطة واللف والدوران، ولخّصت له ما أبحث عنه في سوريا بما يلي:
أريد لسوريا المستقبل أن تكون مكاناً عادلاً، يمكن فيه أن يقاضي فقيرٌ غنياً ويحصل على حقّه، وأن يبدأ فقير العمل بجدّ ليصبح غنياً، وأن يكون هذا “يستحقّ العمل” لا أن يكون للدولة “محاصصة” فيه و”سلبطة” عليه. باختصار، أريد العدالة المفقودة في كلّ شيء، ولو لم يكن هذا دفعةً واحدة، لكن كلّ “عدالةٍ إضافيّة” نحصل عليها كسوريين، أراها نصراً – تماماً كما العدالة في سقوط النظام.
أما عن سبل الوصول إليها؟ فعندي طبعاً تصوّرات ومقترحات، كفصل السلطات، ونزع الصلاحيات الرئاسية مع الوقت، وكسر الجمود السياسيّ وتوسيع الحرّيّات، لكن لو كان هناك طريق آخر لما أريد وحققه أحدهم فلن أعترض – لا أريد قتال الناطور كما يقال، بل أريد العنب.
وأنت، ماذا تريد؟