أدوّن منذ زمن طويل، قبل ما يزيد عن ثمان سنوات كانت لي محاولات عديدة وتجارب مختلفة للتدوين على شبكات التواصل الاجتماعية أو المدونات الشخصية – التي باء الكثير منها بالفشل وأزلت أغلبها عن الانترنت أو حوّلته ليكون قابلاً للوصول من طرفي فقط. استمرت تلك التجارب لسنوات قبل تجربتي الأولى مع كيف ويكي قبل خمس سنوات من الآن، هناك بدأ عملي لأول مرة -ولو تطوعاً- مع فريق من المدونين ومدير تحرير وقواعد يجب الالتزام بها.
ولو أنها لم تدم طويلاً، كانت تلك التجربة كافية لتشجيعي على الكتابة، لأول مرة هناك شخص آخر لديه خبرة ينقلها لي ويصحح ما أفعله ويدلّني على الطريق الصحيح، وأردت السير في ذاك الطريق. لا أعتبر أياً من التجارب بين تطوعي في كيف ويكي وحتى عملي في سماعة “ناضجة” إن صح التعبير. حتى بعد بداية عملي في سماعة لم أكن مدركاً تماماً لما أقوم به، إذ كنت أحاول امتصاص كل ما يمكنني امتصاصه من الأساليب المختلفة واختيار ما يناسبني منها، بالطريقة الأصعب؛ التجربة والخطأ.
أعتبر الأشهر الأخيرة التي انتقل فيها دوري ضمن سماعة من “مدون متعدد الوظائف” إلى “مدون متخصص” – ولو أن كثافة عملي فيها تقلصت – أعتبر هذه الأشهر الأفضل في حياتي كمدون، لأول مرة منذ زمن طويل أمتلك أسلوباً شخصياً، وأعمل على ما أريده بالطريقة التي أريدها. كان لدي “أسلوب” في تدويناتي السابقة ولكنه كان عبارة عن أساليب أحببتها واستخدمتها فقط دون تفكير زائد بالتفاصيل.
بأي حال، هذا المونولوج سيصبّ في الفكرة لا تقلق؛ ما أريد الوصول له هنا أنني عرفت في الأشهر الأخيرة ما الذي أريده ولا أريده في تدويناتي، الأشياء التي أحبها والتي أكرهها، الأشياء التي تستفزني في كتابات الآخرين والتي تجعلني أعجب بها – وأردت تحويلها إلى تدوينات، ألخص فيها ما أعتقد أنه أفضل وأسوأ الممارسات، ليس فقط “لأنها هكذا” وإنما مع “الأسباب التي دفعتني لأفكر بهذه الطريقة”.
وهذا يضعنا عند العنوان، في الجزء الأول من هذه السلسلة من التدوينات -لنأمل أن تكون سلسلة ولا أتخلى عنها في نصف الطريق- سأذكر أسوأ ثلاث أشياء سعيت للتخلي عنها، وسبب تخليّ عنها في التدوين.
لنبدأ من البداية:
الرومانتيكية والشاعرية الزائدة والابتعاد عن هدف النص
لطالما كانت الشاعرية الزائدة من الأشياء التي لم أحبذ رؤيتها لا في تدويناتي ولا في تدوينات الآخرين، ولو أنه لا مفرّ منها في بعض المواضيع إلا أن حشرها في كل مكان يجعلني أضعها في مقدمة المواضيع التي أرغب بالحديث عنها. الرومانتيكية ليست الرومانسية هنا، ولو أنهما متشابهتين في الكتابة وربما في المعنى في بعض الأحيان.
ما أقصده بالرومانتيكية هنا هو إضفاء المشاعر والعاطفية على كل النصوص الأدبية، وجعل هذا العنصر الشاعريّ الجزء الجماليّ المسيطر في النص. يعمل هذا النمط الأدبي والفني بطريقة مثالية عند الحديث عن الروايات والقصص القصيرة برأيي، ولكنه يفشل تماماً عند محاولة نقله كأسلوب إلى عالم التدوين. التدوين لا يحتمل في كثير من الأحيان الشاعرية هذه وتدفعه بعيداً عن الهدف الرئيسي له، وهو إيصال المعلومة.
ولا يخلطنّ أحدٌ بين القوة الأدبية والعبارات المنمّقة والسجع، وبين الرومانتيكية، فالأولى مجرّد أسلوب يختار الكاتب استخدامه أو التخلي عنه، ويستطيع توظيفه بقدته اللغوية الفذّة لكشف المعاني الحقيقيّة وراء الكلمات الأعجمية. بينما الآخر عقبة يضعها الكاتب في طريقه، ليترك العاطفة تسيطر على النص حاجبة المعلومة وراء ستار من الصراخ والضجيج.
ولو أنني لا أفضل الأسلوب الأدبيّ الكثيف، واستخدام تراكيب نحوية وتشابيه بلاغية في تدويناتي، إلا أنني أتفهم وأحترم من يستخدمونه، طالما صب الأسلوب في النهاية في مصلحة الهدف من التدوينة، وهو إيصال المعلومة للقارئ. بينما لا يمكنني إعذار أهل الرومانتيكية على مشاعرهم الفائضة في النص.
عبارات مثل “قل لي بربك” و”توقفوا عن هذا الهراء أرجوكم” و”هل سنبقى هكذا للأبد” و”علينا أن نستيقظ” والكثير من الأشياء الأخرى التي استخدمتها سابقاً في محاولة إيصال أفكاري الشخصية، وعبارات مثل “يداعب القلب” و”يدفع الدفئ في أطرافك” و”يشعرك بعظمة الأداء الفني” التي أقرأها في تدوينات بعض المدونين عن الفن اليوم تقع في نفس الخانة.
المشكلة الأولى بهذا النوع من العبارات أنها لا تساهم أبداً في إيصال الفكرة، حتى عند استخدامها في سياق منطقي، لن يكون لها تأثير في أحسن الأحوال على مدى فهم القارئ للنقطة بشكل صحيح، بل ستدفعه في كثير من الأحيان إلى الفهم الخاطئ، أو ما هو أسوأ؛ عدم الفهم إطلاقاً. حتى لو أدت التدوينة دورها في هذه الحالة فلن تكون “دائمة” – فبهذه القواعد صاحب المشاعر الأقوى والصرخات الأعلى سينتصر في النهاية.
المشكلة الثانية أن هذه المصطلحات غير دقيقة في أحسن الأحوال، ولا معنى لها في كثير من المواضع. جمل كتلك الموجودة في الاقتباس التالي تحمل إضافات قليلة للقارئ دون السياق الصحيح ولا يمكن الاعتماد عليها بذاتها لبناء حجة، وهي أقرب للتصريح منها للشرح.
مزيج ممتع من قصة رومانسية كوميدية مع مواقف درامية مؤثرة وتزيد الرسوم والألوان المُبهجة متعة المشاهدة، وشخصيات المسلسل بصفاتهم الجميلة والقريبة تجعلنا نندمج معهم ونتأثر بالمواقف المُختلفة التي يتعرضون لها.
ما المقصود بالرسوم والألوان هنا؟ (الحديث هنا عن أنمي ولا وجود لتعريف واضح لكلمة “الرسم” بالنسبة للأنمي، لفهم هذا أكثر يمكن قراءة هذا المقال من أحد الأصدقاء) ما المقصود بالمواقف الدرامية المؤثرة المختلفة التي سنتأثر بها بسبب الصفات الجميلة للشخصيات؟
وجود عبارة كهذه في النص دون شرحها سابقاً أو لاحقاً لا يساهم سوى في زيادة عدد كلمات النص، ولا يبني أي حجة تقنع القارئ بوجهة نظر الكاتب، يمكن اعتبارها تصريح برأي الكاتب بشكل مختصر، وربما لهذا فائدته لتلخيص وجهة نظر كاملة طرحت بوقت سابق في النص، ولكن لا يمكن اعتبارها قطعة قائمة بذاتها من النص.
وإن كان هذا الأسلوب غير محبّذ في الحديث عن المواضيع التي تحتمل العواطف كالحديث عن الأعمال الفنية أو المواقف الحياتية، هو أكثر سوءاً في المواضيع التي لا تحتملها إطلاقاً، كالمواضيع العلمية على سبيل المثال.
التمسك بنمط واحد
على الرغم من أنني أعتقد الآن أن أسلوبي الحاليّ هو أفضل ما يمكنني القيام به، في حال عثوري على أسلوب آخر لن أتردد في الانتقال له وتجربتها كترددي قبل سنوات مثلاً. هناك العديد من المشاكل التي يجب حلها دوماً في الأساليب الكتابية وخصوصاً عندما تكون موجهة لفئات مختلفة من القرّاء، وقد استغرقت وقتاً لا بأس به لإدراك هذا. أضف لهذا أن الأفكار لا تبنى جميعاً بالطريقة ذاتها، ولهذا لا يمكن التعبير عنها جميعاً بالطريقة ذاتها. وهتان هما المشكلتان الرئيسيتان للأسلوب الجامد.
بحثت في السابق عن الخلطات السحرية التي يمكن تطبيقها على كافة التدوينات، ربما بناء النص كشجرة متفرعة ضمن عناوين، أو إبقاءه بسيطاً ضمن فقرات متوازنة، أو سرده دون التقسيم لفقرات واضحة، أو بناءه بطريقة تجعل كل فقرة قائمة بحد ذاتها دون اعتماد على الأخرى، وفي الحقيقة لكل من هذه الطرق استخداماتها وميزاتها، ويجب على الكاتب تعلم متى يعمل كل منها.
أعتقد أن ما يدفع الكثير من المدونين للبحث عن أسلوب ثابت هو الإضطرار للموازنة بين الوصول للهدف والملائمة للقارئ ومحركات البحث، ولو أن هذه الثلاثية تشوّه النص في كثير من الأحيان، أجد التفكير فيها ضرورياً الآن للحفاظ على تماسكه، وغياب أحدها يدفع النص للانهيار.
لنفترض على سبيل المثال نصاً يقدم أفكاره بطريقة جيدة، ويخاطب القارئ بطريقة مناسبة، ولكنه يتخلى عن الملائمة لمحركات البحث، ولا أتحدث هنا عن التهيئة المتقدمة أو استهداف الكلمات المفتاحية، فقط القواعد الأساسية في التدوين التي تجعل النص قابلاً للفهم من طرف الخوارزميات، كتقسيم الكلام في فقرات متوازنة ومريحة للقارئ، واستخدام علامات الترقيم في مكانها الصحيح.
نص كالمذكور سابقاً سيبدو كالنص في الأعلى، يمكنك الشعور بالخلل حتى دون امتلاك خبرة في الكتابة، الكتل النصية الكبيرة ملائمة للصحف التي تهدف لحشر أكبر كمية من الكلمات في أصغر مساحة ممكنة، بينما على الانترنت هناك مساحة لا نهائية، ولا داعي لهذا الحشر. النص ذاته ليس سيئاً، يخاطب القارئ ويبني فكرة واضحة، ولكن دون التهيئة الصحيحة.
بالطبع، بعض المقالات تفشل لأنها تحاول الموازنة بين العناصر الثلاثة، وهذا ما يجب على الكاتب تعلمه في النهاية، عن طريق المحاولة والخطأ. وتعلم هذه المهارة برأيي يغني تماماً عن ثبات الأسلوب لتسهيل عملية الكتابة.
ملاحظة أخيرة، التمسك بنمط معين يحصر الكاتب أيضاً في سياق تفكير واحد، وهذا يجعل حديثه في كافة المواضيع متشابهاً -ومكرراً ربما- ويدفعه لبناء حجج خاطئة، وهو ما أراه في كثير من الكتاب الذين بدأت متابعتهم منذ سنوات ولم يختلف أسلوبهم حتى الآن.
الجمع دون الإضافة
عند بدايتي في موقع سماعة كان جزء كبير من عملي متعلق بكتابة وترجمة الأخبار المتعلقة بالصوتيات إلى العربية، أدين لهذا العمل بالكثير من المعلومات التي امتلكها الآن في هذا المجال – لم أكن قبل العمل مع سماعة مهتماً لهذه الدرجة بالصوتيات وكانت معلوماتي في هذا المجال تقتصر على ما يعرفه الجميع إضافة للقليل من الأشياء التقنية.
عبر كتابتي لهذه الأخبار استطعت اكتساب العديد من الخبرات، بسبب قاعدة واحدة التزمت بها من اللحظة التي بدأت فيها العمل: لن أكتب خبراً دون فهم كل كلمة فيه مئة بالمئة. وليس ترجمتها للعربية فقط، بل فهمها من كافة النواحي. وبهذا أصبح نهاري الذي عملت فيه على ثلاث أخبار عادةً محجوزاً بالكامل لما يزيد عن ثلاثة أشهر.
في نهاية الأشهر الثلاثة الأولى كان لدي ملف ضخم من الكلمات التي ترجمتها للعربية وبحثت عن المصطلحات المناسبة لها وفهمت معناها بالكامل، من غشاء مكبر الصوت speaker diaphragm وحتى جسور التفرّع crossover في الأدوات الصوتية. في تلك المرحلة كان من السهل عليّ التوقف وتحويل كتابة الأخبار إلى ما يشابه الخوارزمية -وهو ما فعلته في فترة معينة وظننت أنه جيداً- حيث يمكنك تحويل أي خبر إلى العربية وإيصال كل معلوماته دون إخلال بالبنية.
تقاطعت مشكلتا “الاكتفاء بالمحتوى كما هو” ومشكلة “التشبث بالأسلوب” هنا، ولكن كون كافة المقالات استهدفت نفس الفئة، وكانت من نفس الموضوع، لم يكن التشبث بالأسلوب المشكلة الأكبر بنظري، حتى عند استخدام العديد من المصادر للتحقق من الخبر وتقديم كافة تفاصيله بأفضل طريقة ممكنة، لم أشعر بأي تقدم يذكر في تلك الفترة.
صادف أن الفترة التي حولت فيها كتابة الأخبار لقالب ثابت هي الفترة ذاتها التي بدأت فيها تعلم بعض الخدع المتقدمة في التهيئة لمحركات البحث، ولم أنتبه أن “أدائي التدوينيّ” لم يتحسّن على الإطلاق إلا بعد أسابيع. وهنا بدأت قاعدة جديدة: إضافة فكرة خاصة لكل قطعة أكتبها غير مستقاة بشكل مباشر من المصادر التي أعتمد عليها.
أستخدم أفكاري الخاصة في المقالات الأصلية دائماً، ولكن استخدامها في الأخبار كان مستحدثاً بالنسبة لي في تلك الفترة، وكانت خطوة غيرت الكثير برأيي، القيمة المضافة لكل خبر أصبحت تحدياً، ودفعت الأخبار لتتغير من كونها وظيفة مكررة إلى تجربة ممتعة ومفيدة.
بعيداً عن سماعة الآن، يمكنني ملاحظة المقالات الجمعية التي لا تتضمن أي جزء من روح الكاتب سوى أسلوبه الكتابي أو أسلوب الترجمة خاصته في كثير من الأماكن – بعض الكتاب الذين بدأوا قبلي في المجال لا يزالون يتبعون ذات الأسلوب، وأعتقد أن الأمر واضح للقراء بشدة، لهذا وضعت هذه القاعدة ضمن الرئيسيات التي أعتمدها في الكتابة – حتى عند كتابة الأخبار التي لا مجال للإضافة عليها في كثير من الأحيان.
بأي حال، آمل ان هذا المقال لن يكون الأخير في السلسلة، أحاول العمل على مقالات مشابهة هنا منذ فترة طويلة دون أن يحالفني الحظ بسبب تفرق الوقت بين المشاريع الجانبية ككاواي وأفدني وحياة الجامعة وما أرغب القيام به لنفسي دون هدف معيّن، لنقل فقط أنها خطوة أولى وننهي المقال عند هذا.
مقال هادف.شكرا ليونس بن عمارة الذي عرفني على هذه المدونة.
[…] […]