يمكن اعتبار هذا المقال الجزء الثاني من مقال “النصائح التدوينية” – جزء من سلسلة المقالات التي سأنشرها في مدونتي هذه عن التدوين من خبرتي الشخصية وما أراه حولي. في هذا المقال سأحاول الحديث عن مفهوم “المؤثرين” في عالم التدوين، وكيف يختلف المؤثر المدون عن نظيره الفلوغر وكيف لم نعثر بعد على ترجمة عربية جيدة لهذه الكلمة.
لنعرّف أولاً؛
المدوّن المؤثر
التدوين أو الBlogging كما في الإنجليزية مصطلح واسع لدرجة يجعل أي شخص يمتلك حساب فيسبوك على وجه الكرة الأرضية اليوم مدوناً. فهو يشمل كل من ينشر المحتوى المكتوب على الإنترنت. المدونات الأولى والتي كانت عبارة عن يوميات رقمية لمالكيها لم تكن تشبه أي شيء من المدونات التي نعرفها اليوم، لم يكن هناك أنظمة إدارة محتوى متطورة كاليوم، ولم يكن هناك شركات كبرى تستغل هذا المفهوم كما هو اليوم.
التدوين اليوم يستخدم للإشارة إلى الكتابة على الإنترنت بشكل أكثر احترافية أو تخصصاً. لا يزال المصطلح ضخماً ولكنه على الأقل يفصل بين الكتابات المنشورة على الشبكات الإجتماعية كطريقة للحصول على التفاعل والتي أصبحت تصنف تحت التدوين الإجتماعي، وبين الكتابات المنشورة في مواقع مخصصة أو صفحات مخصصة والتي تهدف لتقديم المعلومات بطريقة أكثر وضوحاً وتنظيماً. تحت هذا المصطلح، كل من يكتب كمهنة أو هواية، ليقدم المحتوى للآخرين بطريقة منظمة، في مكان مخصص، يعتبر مدوناً.
ولكن لبناء مدوّن مؤثر، يستخدم التدوين كصفة شخصية، وليس كمهنة، ستحتاج إلى ربط الكاتب مع القارئ مباشرة وليس فقط مع المحتوى. المدون المؤثر لديه قاعدة متابعين مخلصين وقاعدة كارهين مخلصين – بغض النظر عن محتواه.
في الماضي، كان هذا الدور الكتابي التأثيري محصوراً بين مؤلفي الكتب والروايات والشعراء، وربما كاتبي الزوايا الأسبوعية في الصحف الكبرى. لكل منهم لقب مختلف ولكن “التأثير” الذي ارتبط بأسمائهم هو المتشابه. بالطريقة ذاتها يرتبط التأثير باسم المدون أيضاً في هذه الفترة. يفصل هذا التأثير بشكل واضح بين كتّاب الأخبار الصغيرة وكاتبي الزوايا الأسبوعية، بين مؤلفي الكتب الفكرية ومؤلفي الكتب المدرسية، وبين المدونين و”المدونين المؤثرين”.
لا أقصد بالتأكيد أن من يعمل كمدون دون محاولة السعي لبناء قاعدة جماهيرية أقل قيمة أو قدرة من ذاك الذي يمتلكها، في كثير من الأحيان أصحاب التواجد المتواضع على الشبكة هم أصحاب المحتوى الأفضل والكثير من المقالات المفيدة لا يكشف فيها عن اسم الكاتب أحياناً، ولكن أحاول فقط وضع خط للتمييز بين من أقصدهم في هذا المقال وغيرهم.
بالطبع، كلمة “المؤثر” أكثر دقة في وصف هؤلاء، ولكن كونها تشمل المؤثرين باختلاف أساليب وصولهم لهذا اللقب، استخدامها لن يكون ملائماً في هذا المقال، وتحوير معنى مصطلح موجود سلفاً أسهل من اختراع مصطلح جديد ومحاولة إجبار الجميع على استخدامه. لذا للبقاء على أرض مشتركة، فلنشر إلى هؤلاء بالمدونين المؤثرين حتى نهاية المقال.
الفرق بين المؤثر الفلوغر، والمؤثر البلوغر هنا أن الاول يجذب الناس بشخصيته فحسب، ويبني حوله جمهوراً يحب هذه الشخصية بغض النظر عن ما يقدمه لهذا الجمهور عادة. بينما يبني البلوغر المؤثر جهوره حول المحتوى أولا ثم حول نفسه، هذا ما يجعله اكثر جاذبية لمحبي “الثقافة” أو مدعيها.
كيف يُصنع المدون المؤثر
- الفترة التي بدأ فيها التدوين.
- المواضيع التي يدون عنها.
- المكان الذي بدأ التدوين فيه.
لنبدأ بالحديث عن أهمية الزمن؛ الأولوية في التدوين تعطي المدون المؤثر يداً أفضل بكثير من تلك التي حصل عليها أقرانه البادئين بعد فترة. مثال واضح على هذا رغيب أمين، ولو أنه انتقل لاحقاً ليكون “فلوغر” مؤثر، إلا أن بداياته كانت في التدوين، وجمهوره الأساسي قادم من قراء تدويناته، الذين انتقلوا لمشاهدته على اليوتيوب، ومن ثم انتقلوا إلى متابعته شخصياً، وليس فقط محتواه.
الكثير من المدونين التقنيين الذين بدأوا بعد رغيب أمين يمتلكون محتوى أفضل من محتواه، وربما لديهم خبرة تؤهلهم لنفس المواضيع التي يتحدث فيها وبطريقة أفضل وأسلوب أكثر بساطة ووضوحاً، أو أكثر تقنية وتعقيداً، ولكن لا نرى أيّ منهم على الساحة – اسم رغيب أمين أصبح رديفاً لكلمة “المعلوميات” لسبب بسيط؛ هو من الأوائل في هذا المجال.
المواضيع التي دوّن عنها رغيب ليست بتلك الأهمية اليوم، لن تعود في المدونة لأشياء مكتوبة قبل سنوات للبحث عن طريقة “للربح عبر الانترنت” والتي كانت تعتبر أحد أشهر المواضيع التي بدأ الحديث عنها رغيب في بداياته. ولكن قد تعود في القناة لتشاهد فيديوهات “الدراما” بينه وبين شخص آخر، لأن هذه الفيديوهات مرتبطة بشخصه، وليس بالمحتوى الذي يقدمه.
رغيب أمين أيضاً بدأ التدوين في مدونته الشخصية، وليس فيها شيء مميز حقاً. المدونة حتى اليوم لا تزال مبنية على الاستضافة المجانية “بلوغر” التي تقدمها غوغل. وحصلت على عدد قليل جداً من التحديثات خلال السنوات الماضية، سواء في الشكل أو الأداء.
رغيب أمين اشتهر لأنه أول من تحدث بتلك المواضيع، ولم يبق مشهوراً لأن تلك المواضيع مهمة، بل لأنه قدم شخصيته بشكل قوي في هذا المحتوى. والمكان الذي بدأ منه لم يكن مميزاً جداً عن أي مكان آخر.
بالنسبة للمواضيع؛ رغيب أمين مثال جيد أيضاً عن مساهمة المواضيع في بناء الشخصية التأثيرية للمدون، وهناك عشرات الأمثلة الإيجابية والسلبية المشابهة: عماد أبو الفتوح، فراس اللو، ثمود بن محفوظ، والكثير من المدونين المشهورين في “أوساط معينة” اعتمدوا على مواضيع أو صياغات يستخدمونها في كتاباتهم لبناء شخصياتهم على الإنترنت وجذب الناس لمتابعتهم شخصياً، وليس فقط المحتوى.
قد تعتقد أن الأسماء السابقة “أقل شهرة” من رغيب أمين وليس من الصحيح الحديث عنها في نفس السياق، ولكن الطريقة التي يركز كل منهم على موضوع معين فيها والطريقة التي يتحول فيها هذا الشخص إلى “مؤثر” في دائرته الخاصة مشابهة للطريقة التي اعتمد عليها رغيب في اكتساب جمهوره، المختلف هنا فقط هو الفئة المستهدفة والحجم الناتج – إضافة للاختلاف المهم الآخر الذي يجعلهم أمثلة جيدة عن مدونين اكتسبوا تأثيرهم من خلال المحتوى وليس من خلال الأولوية، أنهم لم يكونوا الأوائل في المجالات التي كتبوا فيها – ربما من الأوائل ولكن ليس بما يكفي ليجعل بدايتهم “دافعاً كبيراً” لكونهم مؤثرين.
مجدداً، كونهم مؤثرون ولشخصياتهم دور كبير في متابعة الناس لهم لا يعني أنهم يقومون بأي شيء سيء، ولا يعني أن محتواهم سيء، ولا يعني أنهم “مشكلة”… على العكس، في كثير من الأحيان يكون هذا التأثير إيجابياً ويدفع المحتوى نحو الامام وسأتحدث عن هذا لاحقاً.
بالنسبة للمكان؛ من الأسماء السابقة الكثيرون ممن حملوا اسم المكان برفقة اسمهم حتى بعد الخروج منه، يمكن ملاحظة هذا عند الكثير من مدونين مجلة أراجيك، وفي حالة المدون محمد حبش الذي ارتبط اسمه بموقع خمسات على الرغم من كون عمله وتوظيفه لا يقتصر على ذلك الموقع حتى الآن.
في كثير من الأحيان يأتي ارتباط اسم المدون باسم المكان الذي بدأ الكتابة فيه أو اكتسب الشهرة من خلاله بسبب شهرة المكان بأمر معين، فكما ارتبط اسم محمد حبش بالعمل الحر بسبب كون خمسات موقعاً للعمل الحر، وبسبب شهرته في ذاك الموقع سواء عند البائعين أو المشترين، الكثير من مدوني مجلة أراجيك ارتبط اسمهم بالثقافة التقنية واللايف هاكس والتدوين الاجتماعيّ بسبب توجهات المجلة والمحتوى الذي نشر فيها بدايةً.
العناصر الثلاثة، الزمان والمكان والموضوع، متداخلون عادة في تأثيرهم على شهرة كاتب ما، ولا يمكن القول ان أحدهم “سبب” بنفسه لاكتساب مدون ما التأثير الذي يمتلكه، ولكن باجتماع الثلاثة – وغيرهم الكثير من العناصر الفرعية كالأسلوب والاهتمام بالقاعدة الشعبية والقيام بما يخدم الصورة العامة للشخص والكثير من الأشياء “التأثيرية”، يصبح المدون مدوناً مؤثراً وذا “براند” شخصيّ.
مفترق الطرق
كما كل شيء، لا حقيقة مطلقة عند الحديث عن مفهوم المدون المؤثر وانعكاس هذا على محتواه ومتابعيه، يمكنني التفكير بالكثير من المواقف المتناقضة التي تجعل الحكم على المفهوم بالمطلق مستحيلاً… في الحقيقة، سأذكر بعضها هنا دون ذكر أسماء مدونين بعينهم بأي حال كوني لا أبحث عن الدراما بقدر بحثي عن الحل وكون ذكري للاسماء سابقاً لم يكن بسياق سيء أو جيد بقدر طرح الأمثلة المحايدة – بينما ذكري هنا سيكون بغرض الحديث عن المشاكل بعينها.
الثقة
المشكلة في موضوع تحول المدون من شخص يقرأ الناس ما يكتبه قبل رؤية اسمه، إلى شخص يرى الناس اسمه قبل ما يكتبه، هو أن الأهمية التي يجب إعطائها دائماً للمواضيع وليس للأفراد تذهب بالاتجاه الآخر. والمشكلة الأكبر أن بعض المواضيع تتطلب فعلاً أن تكون الأهمية الأكبر للفرد – ولكن هذه حالات خاصة.
على سبيل المثال، في جائحة كورونا الحالية يمكن رؤية مشكلة الثقة بأفضل طريقة ممكنة، الكثير من المدونين الأطباء الذين لم يتخذوا دوراً “مؤثراً” لا يصل كلامهم للجمهور الكافي – ومن الجيد أن بعضهم عمل على هذا سلفاً واستطاع أن يكوّن جمهوراً كافياً للتوعية في فترات مشابهة، وإلا لكان الوضع أسوأ بكثير مما هو عليه.
في الطرف الآخر، هناك العديد من المدونين التقنيين والاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين الذين أدلوا بدلوهم في موضوع الفيروس وقرأ الناس رأيهم اعتماداً على هذه الثقة – لسوء الحظ أن عدد هؤلاء ضخم جداً وأن تأثيرهم ولو كان محدوداً أو مؤقتاً، هو تأثير مهم في مرحلة حرجة كهذه. حتى لو لم تكن آراء هؤلاء “خاطئة” حول الموضوع، مجرد الترويج لكون أي شخص قادر على “الإفتاء” في موضوع حساس كهذا هو أمر سيء.
الثقة أيضاً تضع مشكلة المصادر في سياق أضخم، وهي مشكلة حقيقية في مجتمع التدوين ككل ولكن تظهر تأثيراتها الكبرى في مجتمعات المدونين المؤثرين بشكل أوضح؛ يمكن لشخص لا علاقة له بالطب أن يرمي نظرياته عن الفيروس دون أدنى دليل، مسفّها جهود آلاف الأطباء حول العالم، فقط لدفع أجندة سياسية معينة – وسيثق به الناس لكونه “خبير سياسيّ” ولو كان حديثه في ملعب مختلف تماماً عن السياسة، هذا كله دون أي مسائلة من القراء عن مصادر الكلام أو دلائله.
التخصص هنا هو الحل، وإدراك القارئ والكاتب للحدود التي لا يجب عليه تخطيها – بالأخص في المواضيع الحساسة.
الشخصنة
كما لا يمكنني في هذا المقال ذكر أمثلة فعلية قام فيها مدونون بالقيام بأشياء أعتبرها سيئة خوفاً من تحول الأمر إلى دراما كبرى، وربما تدخل بعض الأصدقاء لحل المشكلة أو إزالة المقال أو على الأقل جزء منه بسبب كلمة على المدون الفلاني أو المدونة الفلانية، يجعل هذا من الصعب أن يتحسن المحتوى – الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها تحسين المحتوى هي تلقي النقد وإعطائه دون اكتراث، وتحول الكثير من المدونين إلى مؤثرين يجعل هذا الامر شبه مستحيل.
هناك سببان رئيسيّان يجعلان هذا الامر مستحيلاً؛ الأول أن الفصل بين المدون ومحتواه صعب جداً عندما يعرّف المدون عن نفسه في كل فرصة تتاح له ضمن النص والخطأ دائماً على من يشخصن عند النقد وليس من يشخصن عند الكتابة، وأن سوق العمل في التدوين يجعل هذه المقامرة في نظر الكثير من العاملين فيه لا طائل منها عند المقارنة بين الفوائد والمساوئ.
الحل لهذه المشكلة يكمن بين يدي المدون نفسه ليكون أكثر تقبلاً للنقد وليفصل بين نفسه ومحتواه بما فيه الكفاية ليكون الآخرون قادرين على انتقاده دون قلق – وهذا ما يجعلها لسخرية القدر غير قابلة للحل تقريباً لأن أغلب المدونين لا يفكرون بهذه الطريقة.
جنون العظمة
الثقة بالنفس ضرورية جداً لنشر اي شيء في أي مكان، وعلى الإنترنت الأمر أسوأ بكثير. كشخص يحب الخصوصية أعاني جداً قبل نشر أي مقال فيه أفكار “خاصة” أحاول إيصالها للآخرين، لذا أدرك تماماً أهمية الثقة بالنفس والحفاظ على المحيط الإيجابي والداعم في مسيرة أي شخص في التدوين – بالأخص لو كان مؤثراً وله قاعدة قراء ضخمة. ولكن عن نفسي أبقي الاستقرار في هذه الجبهة بأسلوب بسيط.
كل الأشخاص المحيطين بي مشجعون جداً على ما أقوم به – حتى لو كان غريباً في بعض الأحيان – ولكنهم جميعاً يقدمون نصائحهم حول المحتوى وطريقة الكتابة والصياغة والأسلوب دون خجل. أحاول دائماً إبقاء دائرة من الأصدقاء المقربين المهتمين بتقديم النصائح، ليس فقط ليصبح محتواي أفضل ولكن كي أبقى “ضمن حدودي” إن صح التعبير.
الانتقاد من المحيط القريب للشخص مختلف تماماً عن انتقاد شخص بعيد – كما ان مجاملة شخص بعيد مختلفة تماماً عن مجاملة شخص قريب. الانتقاد تزداد قيمته وتأثيره مع قرب الشخص، والمجاملة مع بعد الشخص عنك.
في هذه المواقف أرغب جداً بإضافة أمثلة سلبية عن مدونين لا ينالون النقد الكافي على محتواهم ويتحول الأمر إلى مرض وجنون عظمة يزداد من المقال إلى الآخر – ليس فقط من ناحية المبالغة بالمعرفة، أو القدرات الشخصية، بل بطريقة الكتابة والصياغة والأسلوب.
الحل هنا بسيط جداً؛ أحط نفسك بأشخاص لا يخجلون من طلب حذف الهراء الذي تكتبه عن وجه الانترنت.
كيف تقتل مدوناً إذاً؟
باختصار، ضع فيه ثقة لا يستحقها واسمح له برفض كل الانتقادات بحجة الشخصنة وعزز غروره حتى يصل إلى جنون العظمة.
[…] هادي يستمر في تدويناته الطويلة والهادفة، كيف تقتل مدون… أعتقد أني قتلت نفسي أيضًا. […]
[…] مع بعض النقاط هنا في كيف تقتل مدونًا والتي يشاركنا إياها الزميل […]