أين تذهب مشاعري عندما أكتب؟
إن لم يكن هذا واضحاً بَعْد؛ علاقتي بالكلمات طويلة وحميميّة، أعمل في الكتابة وأعتبرها هواية، أقرأ وأكتب عنها بطريقة تجريديّة، وأبحث دوماً عنّ نصّ آخر يمكنني قراءته لأصل إلى النشوة، سواء كان هذا عبر انتقاده والنظر في عيوبه، أو محاولة فهمه والخروج بما يجعله قادراً على تحريك أمرٍ في داخلي.
في محورها، الكتابة بالنسبة لي أمرٌ شخصيّ، حتّى عند قراءتي لنصّ عن موضوع جامد عن سرد لحقائق أو شرح لأمر بطريقة ميكانيكيّة، لا أزال أرى في هذا النص أداة أكثر قدرة على التعريف بكاتبه من أيّ سيرة ذاتيّة، فهذا النصّ برأيي قادر دائماً على عكس جزء من شخصيّة كاتبه لا إراديّاً، حتّى.. أو إن صحّ القول؛ بالأخصّ، عندما يحاول الكاتب فيه التخلّص من وجوده فيه بالكامل.
قدرة النصّ على هذا -خصوصاً عندما يكون الموضوع شخصياً في محوره- يجب احترامها بنظري، وهذا الاحترام يشكّل جزءاً كبيراً من الطريقة التي أشعر فيها “بالانزعاج” أو “الاهانة” عندما أقرأ نصّاً مباشراً أكثر مما يستدعي الأمر، وهو ما يعرّف أيضاً جزء كبيراً من أسلوبيّ الحاليّ في التعامل مع الأفكار، خصوصاً تلك التي أشعر أنّها تلامس شيئاً من حياتي.
وهذا ما يقودني لموضوعي الأساسيّ، وهو المباشرة الزائدة في عرض الناس ذواتهم وحياتهم ومشاعرهم الخاصّة، وبالأخصّ عندما يأتي الحديث إلى المواضيع التي من المفترض أن تحمل جزءاً مخفيّاً من حياة الكاتب، ربما لم يكن ليشاركها مع من حوله.
أين ترسم الحدود؟
ما أقوم به هنا هو محاولة لسرد أمر شخصيّ، شعور معيّن، وهي المفارقة التي وجدت فيها نفسي عندما قررّت الكتابة عن هذا الموضوع ومحاولة ترتيب أفكاري فيه. ألن يكون من التناقض الحديث عن “مبالغة الناس في عرض ذواتهم” وأنا هنا في مدوّنتي أتحدّث عن “انزعاجي” من هذا، على العموم، ببجاحة؟
لماذا اعتراضي هذا، مهما كان “منمّقاً” مسموحٌ بنظري، بينما إن قام أحدهم بالحديث عن مشكلة في حياته على مكان ما، أو كتب عن تجربة شخصيّة بتفاصيل زائدة، يبدأ عقلي الباطن بالصراخ للتوقف عن القراءة؟ أليس كلاهما في النهاية قادمان من تجربة شخصيّة ويعبّران عن مشاعر شخصيّة؟ لماذا أشعر بنوع من الانزعاج عندما أكتشف أنّ رواية ما حملت في طيّاتها جزءاً من حياة الكاتب بشكل مباشر؟
لماذا أجد الرمزيّة المبالغ فيها أمراً مثيراً للغثيان؟ وهو ما يجعلني أتجنّب الشعر وقراءته -خصوصاً الشعر الحديث- على الرغم من إعجابي به من ناحية لغويّة تقنيّة، إلا أنّ الطريقة التي يحاول الشعراء توصيل الأفكار فيها برمزيّة مبالغ فيها، تضعني أيضاً في حالٍ غير مريح على الإطلاق.
أين ترسم الحدود؟ هل عندما يبدأ أحدهم بالحديث عن أمور عائلته على الملأ، أو عندما يبدأ بالحديث عن مشاعره بعد فيلم أو كتاب ما؟ أو عندما يكتب مقالاً يحاول فيه تفسير مشاعره حول فكرة ما؟ أو عندما يحاول إيصال مشاعره بطريقة رمزيّة بالكامل من خلال قصيدة أو قصّة؟ أو عندما يضع ذاته فيها بشكل مباشر ويلوي أحداثها لتصبح عنه؟
هذا برأيي هو سؤال المليون دولار، وكوني لا أمتلك إجابة واضحة، سأضع مشاعري على الطاولة هنا:
انت حرّ بما تكتب.
لتكن هذه النقطة هي الأساس في كلامي القادم؛ كلّ كاتب حرّ بما يكتبه وينشره، هو حرّ بحياته الشخصية وكيف يتصرف فيها، وهو حرّ بما يختار كشفه منها وعرضه للملأ. (عليّ أنّ أضيف؛ طالما كان لا يخالف القانون، لأنني أتوقع أنّ أحداً سيعقّب على هذا بذاك.) لو لم تكن هذه هي الحالة، لما كان هناك برأيي أيّ معنى لما سيختاره الشخص، ولما كان هناك “أمر يزعجني وآخر يفرحني قراءته” من الأساس.
حرّية التعبير هي الأساس، ولا أعتقد أنّي أو أيّ أحد آخر، نمتلك الحقّ في تحديد ما يجب أو ما لا يجب نشره ومشاركته مع الآخرين.
مساعدة القارئ أم الاستهانة به؟
يسعدني حقّاً أن المباشرة الزائدة في الروايات أمر مرفوض في أغلب الأحيان، حتّى خارج سياق استعراض الكاتب لمشاعره أو أفكاره الشخصية بشكل مباشر، فحتّى عند عرضه لمشاعر شخصيّة في هذه القصّة، المباشرة المبالغ فيها معبوس عليها، وتلقيم القارئ ما يجب أن يشعر به مكروه لأغلب القرّاء، وهذا يجعل الكتّاب -الجيّدين على الأقل- يتعاملون مع هذا النوع من استعراض الأفكار بحذر.
على الانترنت في الكفّة الأخرى، الأمر مختلف، الانترنت يبارك لمن يشارك مشاعره الشخصيّة ويحثّه على ذلك، وهذا جزءيّاً عائد إلى الطريقة التي يعمل فيها الانترنت، والظروف التي يقرأ فيها المستخدمون المنشور عليه. فهي غالباً قراءة سريعة وغير مركّزة ولا يمكن الاعتماد على التضمين فيها بشكل زائد.
في الحالتين السابقتين، أرى أن الهدف من التبسيط والمباشرة أهمّ من حقيقة وجودها؛
إن كان الهدف من التبسيط في الرواية تغطية ضعف قدرة الكاتب على عرض مشاعر شخصيّاته مثلاً أو تضمين أفكاره ضمن السياق، أو عندما يكون العرض المباشر للمشاعر في النص المنشور على الانترنت هدفه دفع انتباه القارئ بعيداً عن النقاط الهامّة وسحب تركيزه إلى ما يحرّك مشاعره بطريقة مهينة، فهنا المشكلة واضحة، ليس لأن النص يحاول رمي المشاعر عليّ رمياً، بل لأنّه يحاول الاستهانة بي.
أمّا إن كان الهدف مساعدة القارئ على الوصول إلى الفكرة، فعلى الرغم من عدم تفضيلي هذا في حالة الحديث عن مواضيع شخصيّة، إلّا أنّي لا أجد فيه مشكلة، طالما لا يستهين بالقارئ أو يتعامل معه على أنّه متخلّف عقليّاً.
ما الفكرة التي تحاول إيصالها؟
لا أجد مشكلة بما يكتب مهما كان طالما هناك هدف منه، حتّى ولو كان هذا الهدف هو الترويح عن الذات أو تفريغ الأفكار أو التعبير عن حالة ما، لا أجد فكرة نشر اليوميات على الانترنت أمراً مزعجاً -على العكس، أجدها مثيرة جداً للاهتمام- ولا أجد موضوع الانطباعات أو الخواطر بهذا السوء.
ما يزعجني فعلاً هو عدم وضوح الهدف، والخلط بين الأفكار دون داعٍ. على سبيل المثال، تخيّل أنّ هذا المقال بأكمله مجرّد صراخ عن انزعاجي من مشاركة الناس لحياتهم الشخصية على الانترنت دون توضيح سبب شعوري هذا أو محاولة شرح مفهومي عن هذا الموضوع بشكل واضح. بالطبع، هناك أشخاص لن يمانعوا قراءة هذا، ولكن أجد عدم وجود هدف واضح بسوء الاستهانة بذكاء القارئ، بل أسوأ، فهو يستهين بوقته وانتباهه.
ولنكن واضحين، إن كان الهدف من المكتوب لا علاقة له بالحياة الشخصيّة للكاتب، فأجد مشاركته لمعلومات خارج السياق أسوأ بكثير من مشاركتها في مواضيع متعلقة بمشاعره الشخصيّة. إن كان المكتوب يحاول شرح طريقة عمل التورنت مثلاً، وسرد لي قصّة معاناته الماليّة وصعوبة الحياة في منزله، فسأشعر حتماً بالاهانة.
التلاعب بالقارئ
إن لم يكن واضحاً من كلامي السابق، التلاعب بالقارئ وخداعه أمر أرفضه تماماً، خصوصاً عندما يكون عن طريق خلط المشاعر الشخصيّة بحقائق ومحاولة تغيير رأي بهذا الأسلوب. وهي أصلاً مغالطة منطقيّة لا يجب الوقوع فيها.
عشرات الأطفال يموتون، هل تكترث للأطفال الّذين يموتون؟ إن كنت تكترث للأطفال الّذين يموتون، عليك أن تقتنع بنظرتي حول هذا الموضوع، لأن من يكترث بشأن الأطفال الّذين يموتون يجب أن يقتنع بنظرتي.
لأكون واضحاً، للمشاعر أهمّيّة، وللكاتب الحق بعرضها، ولكن خلطها بالحقائق بطريقة تجعل من الصعب على القارئ اتّخاذ قرار حقيقيّ بناء عليها دون التأثّر بضغط الكاتب أمر دنيء، وهذا موجود تقريباً في كلّ الصيغ الكتابيّة – في المقالات والمنشورات والقصص والروايات والمسلسلات والافلام وغيرها.
منطقة راحتي الخاصّة
وهذا يأخذنا لجواب سؤالي في العنوان، أين تذهب مشاعري عندما أكتب؟
والإجابة: هي هناك، أفضّل فقط أن تكون موجودة ضمن النصّ، في صفاته وشكله وبطريقة عرضه، بدلاً من أن أرميها على القارئ رمياً.
سأبقى أنزعج من الطريقة التي يعرض فيها البعض حياتهم على الانترنت، وسيبقى هناك جزء من حياتي موجود على الانترنت للأبد بالطبع -حتى مع محاولاتي العديدة على تجنّب هذا في هذه الأيّام- ولكن على الأقل، عندما أدخل في حديث مستقبلاً عن سبب كرهي لهذا، لن أكتفي بالصراخ “كرينج” ثم إغلاق الحديث، بل سأحاول فهم المشكلة بطريقة أعمق، وربما أكتب إضافة لهذا المقال تساعدني في رسم الحدود بشكل أفضل – ولو كنت لا أؤمن بأنّ رسمها بدقّة ممكنٌ أصلاً.
[…] أين تذهب مشاعري عندما أكتب؟ مدونة هادي الأحمد. […]
[…] أين تذهب مشاعري عندما أكتب؟ مدونة هادي الأحمد. […]
كلام منطقي وبالنيبة للحدود فلا يمكن رسمها ولا تحديدها نظرًا لكثرة سياقات الحديث وتنوعها.
على الانترنت الجميع يهذي بكل ما يريده ولا يضايقني هذا تحديدا ان كان المنزعج لديه شيء ليقوله بدل الشتم او الصياح الفارغ.