في هذا الجزء من سلسلة خارج السياق، أردت جمع بعض الأفكار المتراكمة في المسودات والتي لم تتح لي الفرصة -كالعادة- بالكتابة عنها بإسهاب، ربما بسبب الكسل أو الانشغال أو لأنها ببساطة لم تنضج بالكامل.
فلنبدأ بما يشغل نصف وقت نهاري دون سبب مقنع لأغلب أيّام الأسبوع؛ التعليم الجامعيّ. ولأكون واضحاً من البداية، كلامي هنا مجرّد افتراضات شخصيّة ولكن الهدف الفعليّ منها -كالعادة- هو فتح النقاش، ومشاركة الأفكار حول حالة يعيشها مليارات الأشخاص حول العالم.
التعليم الجماعيّ والتعليم الفرديّ والتعليم الذاتيّ
التعليم الجماعيّ هو ذاك الذي نراه في المدارس والجامعات، سواء الخاصّة منها أم العامّة، حيث يشترك مجموعة من الطلاب ضمن صفّ واحد بمعلّم واحد ينقل خبراته لهم – إلى حدّ ما، نظام التعلم الجماعيّ كان وما زال إلى حدّ ما، النظام الأفضل من ناحية التكلفة/التأثير. التعليم الجماعي لا يقتصر على التعليم في المدارس والتواجد في غرف الصّف، بل يشمل أيضاً التعليم عبر الانترنت والاجتماعات المتزامنة بين الطلاب والاساتذة.
التعليم الفرديّ يضع المعلّم والطالب وجهاً لوجه، ويرفع قوّة تأثير الدرس على حساب التكلفة الأعلى.
بينما يزيل التعليم الذاتيّ الحاجة للوجود المتزامن بين الطالب والمعلّم ويسمح بتخفيض التكلفة -جداً- على حساب ترك التأثير لرغبة الطالب نفسه وقدرته على الفهم والمتابعة والدراسة. هذا النوع من التعليم لا يقتصر على الانترنت فحسب، بل هو موجود منذ الأزل عن طريق الكتب والكتيّبات والدلائل الدراسيّة.
التعليم الجماعيّ
- تكلفة مقبولة.
- فعالية مقبولة.
التعليم الفرديّ
- تكلفة أكبر.
- فعالية أكبر.
التعليم الذاتيّ
- تكلفة أقلّ.
- فعالية أقلّ.
ما يجعل التعليم الجماعيّ الخيار الأفضل للدول والحكومات هو أنّه يجمع بين الفعاليّة والتأثير وبين التكلفة المعقولة – حتّى مع الحاجة لبناء المدارس وتوظيف المعلّمين، النتائج القادمة من إبقاء مستوى التعليم فوق حدّ معيّن كافية لتبرير هذا الانفاق، أهمّ هذه النتائج خفض معدّلات الجرائم والبطالة – اثنين من أهمّ المعايير التي تحدد قابليّة العيش في مجتمع حديث.
هذا يعني أن الهدف من التعليم الجماعيّ، مهما كانت جودته، هو وضع أكبر قدر ممكن من الأفراد في أعلى مستوى معرفيّ ممكن بأقلّ تكلفة ممكنة. ولكن السؤال الأهم الذي يجب طرحه هنا هو:
ما هو القدر الكافي من المعرفة الذي يجب على الجميع امتلاكه؟
مع زيادة عدد السكان حول العالم تصبح الوظائف المتاحة للأفراد أكثر وأكثر تخصصاً؛ بينما في السابق عندما كانت القرية مؤلفة من 200 شخص، كان من السهل على الأفراد “تحديد مهنة” والالتزام بها وتعلّم ما يمكن تعلّمه عنها بما يكفي لتلبية حاجة المجتمع ذاك، أيّ أنّ الأفراد هنا يحتاجون لمعرفة أساسيّة أكبر في عدد أكبر من المجالات، ومعرفة تخصصيّة أقل في المجال الأساسيّ الذي سيعملون فيه.
مع زيادة السكان أصبح على الناس التوجه إلى أحد الحلّين لامتلاك قيمة وعمل في المجتمع؛
الأول الدخول في المنافسة – وهي ممكنة إلى مستوى معيّن من توافر الخدمة. كأن يقدّم خمس أشخاص خدمة بيع الخضروات في نفس الشارع، كلّ منهم ينافس الآخر بطريقته الخاصّة، وهذا ممكن حتّى تبدأ الشركات الكبرى بالدخول في هذا المجال والسيطرة عليه.
الثاني هو التخصص الصغري – أي أن يصبح الشخص متخصصاً في تفصيل معيّن ضمن مهنته، كالتخصص في بيع التفّاح لفئة معيّنة من الناس الذين يبحثون عن نوع تفّاح معيّن. أو أن يتخصص الطبيب الجراح في نوع معيّن من العمليّات التي لا يمكن لغيره من الأطباء القيام بها.
في الحالتين، سواء المنافسة أو التخصص، يحتاج الفرد لقدر أقل من المعرفة “الأساسيّة” وقدر أكبر من المعرفة التخصصية.
ما أحاول الوصول له من هذه الفكرة هو أن التعليم الجماعيّ ليس قادراً -مهما كانت جودته عالية- على تقديم معرفة تخصصية كبيرة للمتعلّمين، والسبب بسيط؛
زيادة عدد الأشخاص الذين يحصلون على نفس التعليم يعني أنّ ما يعرفونه هو “المعرفة الأساسيّة” في هذا المجال، وبالتالي تصبح الحاجة للتخصص الصغريّ أكبر. وقلّة عدد الأشخاص الذين يحصلون على نفس التعليم يجعله أقرب للتعليم الفرديّ، ويرفع التكلفة مقابل الناتج على من يقدّم هذا النوع من التعليم.
التعليم الذاتيّ هو الأكثر قدرة على توفير التخصصيّة هذه للمتعلّمين.
التوازن الحاليّ
لأول مرّة منذ عشرات السنوات تظهر مجالات عالية التأثير في السوق وتعتمد بشكل كامل على التعلم الذاتيّ والتخصصات الصغريّة بدلاً من التعليم الجماعيّ – وتصبح المعرفة “الأساسيّة” العامة أقل قيمة مع الأيّام في هذا المجال. مجالات التنقية والتطوير الرقميّ كلّها تعتمد على الخبرة والتخصص والتعلم الذاتي أكثر من اعتمادها على الشهادات والتعليم الجماعي – على الرغم من أن الاعتماد على هذا النوع من التعليم لا يزال موجوداً في هذا المجال، إلّا أنّ القاعدة العامّة تميل أكثر لكفّة التعليم الذاتيّ.
ولكن في نفس الوقت، لا يزال التعليم الجماعيّ ناجحاً في الكثير من المجالات الأخرى التي لا يقلّ تأثيرها أهمّية عن تلك التي بدأ التعليم الذاتيّ بالسيطرة عليها، الطب والهندسة أكبر مثالين يمكن ذكرهما في هذا المجال – إضافة لمئات أنواع الوظائف المكتبيّة والحكوميّة والإدارية. التعليم الجماعيّ لا يزال الخيار المفضّل للحكومات حول العالم لأنّه يقدّم القيمة الأكبر لمواطنيها ولا يزال الخيار المفضّل للمنظمات التعليميّة الخاصّة لأنّه يوازن بين التكلفة والتأثير بشكل جيّد.