سقط نظام الأسد بسرعة فائقة فاجأت حتّى أحمد الشرع نفسه -وأحب للآن تسميته بالجولانيّ- وعلى الرغم من أنّ الصدمة كانت مفرحةً لكثيرٍ من السوريين، إلا أنّ الفئة المستفيدة من النظام سواء ممن تلطّخت أيدهم بالدماء، أو من تلطّخت ألسنتهم بالتملّق للنظام، لم تكن معنا في تلك الفرحة، ودفعتهم هذه الصدمة لتغيير المواقف المفاجئ الذي عرف باسم التكويع: من الكوع، نكاية عن تغيير المسار المفاجئ.
بلحظات، تغيرت صور الكثير من السوريين على السوشال ميديا إلى علم الثورة، بعضهم احتفالاً، والبعض الآخر لإخفاء العار وادّعاء نصرة الثورة المضمرة في قلبه، والتي ظهرت اليوم لأنّ “الأسد المرعب” قد هرب.
لم يقف الأمر عند تغيير الشكليّات فحسب، بل انتقل لساحات الاحتفال والنصر، ورأينا كثيرًا من هؤلاء المتلوّنين في ساحات دمشق بل حتى في مشاهد دخول القصور والمنشآت الحكومية، بعضهم مع سلاحه وبعضهم باللباس العسكريّ أو نصف العسكري.
التقلّب السريع
يمكن فهم حالة التكويع من خلال محاور كثيرة، أولها وأبسطها أنّ هذا الفعل جزء من التقلّب المعتاد لدى كثيرٍ من السوريين على مدى السنوات السابقة، وهذا من ضرورات البقاء على قيد الحياة في هذه البلاد، خصوصًا عند الحديث عن سنوات التغيّر السريع والكرّ والفرّ بين الجيش الحرّ ونظام الأسد,
تغيرات المعركة الساخنة في سنوات الثورة الأولى التي أدّت لانتقال المناطق بين سلطات الثوار والجيش النظاميّ والمليشيات بأنواعها واختلاف عقائدها، ولهذا لدى الكثير من السوريين “مرونة” في التقلّب بين المواقف، وهذا لا يقتصر على مناصري الأسد فحسب، بل الجميع دون استثناء.
هذا التقلّب جزء من حياة المواطن السوري المدنيّ غير المسلّح، واستغلّه النظام بقوّة حتّى مع مواليه لزرع المخبرين ومطاردة الثوّار والناشطين بعد استعادته لبعض المناطق من خلال تقارير هؤلاء المتلوّنين.
إضافة لهذا، كان التقلّب أداةً رئيسيّة له في كسر الروح الثورية لدى كثيرٍ من المدنيين في مناطق النظام، وشجّعهم في كثيرٍ من الأحيان على مناقضة رؤاهم ورغباتهم الحقيقية بلسانهم وتصرفاتهم في مناطقه، سواء في أوقات الانتخابات أو المسيرات “العفوية” أو من خلال الرشاوى والتشبيح والواسطات.
فمن خلال خضوعهم لهذا سيشعرون بأنّهم ليسوا “ثوريين حقًّا” ومواقفهم تتغير صاحب السلاح الأكبر، بغضّ النظر عن الحقّ والعدالة والمبادئ الثابتة.
لذا يمكن رؤية هذا التغيير السريع بعد سقوط النظام جزءًا من حالة التقلّب العامّة للبلاد، وأمرًا اعتاد عليه الطرفان: موالو النظام والثوار.
تحوير التاريخ
نظرةٌ أخرى لحادثة التقلبّ الجماعيّ لأنصار النظام في يوم السقوط تقتضي تخصيصًا أكبر لمن شارك في دم الثوار، سواء بيده أو بلسانه، فهؤلاء احتاجوا وبأقرب وقتٍ ممكن التغطية على أفعالهم، بعضهم بطرقٍ فعّالة، والآخر “بما يتوافر بين يديه”.
ففي اللحظات الأولى من الدخول إلى دمشق بعد فرار الأسد، انتشرت حرائق في فروعٍ أمنيّة ودوائر حكوميّة عرفت بتسجيلها لمستنداتٍ هامّة حول جرائم النظام، ورأينا الكثير من الفيديوهات لجنودٍ يخلعون ملابسهم في الطرقات ويرمون سلاحهم للفرار بأسرع وقت.
في المقابل، من كان من “المستويات السفليّة” لهذه المنظومات، كالمخبرين الذين لم يعلموا أصلًا أنّ باسمهم ملفّات في الفروع الأمنية، والشبيحة “المستقلّين” وحملة السلاح، لم يكن هؤلاء قادرون على تغطية جرائمهم بالطريقة الفعّالة السابقة، فتوجّه أغلبهم للتخفّي ضمن الجموع والتنقيب عمّا يثبت ثوريّتهم على النظام ولو بأدنى الدلائل.
لكنّ سقوط الهارب لم يترك لهؤلاء الوقت الكافي للعودة إلى أرشيفات حساباتهم ومسح مافيها – خصوصًا التعليقات فهي صعبة الحذف، وكان التلوّن “بقدر المستطاع” – صورة الحساب والغلاف ومنشورٌ بسيط لشتم الأسد “مؤقّتًا” ريثما يجدون الوقت لحذف المنشورات السابقة.
خلق الفوضى
كما في حالات الحرائق المفتعلة، تلعب الفوضى الرقميّة دورًا كبيرًا في إضاعة الحقوق والتمويه، خصوصًا للشبيحة والمؤيّدين الأقل شهرةً خارج مناطقهم أو دوائرهم، فالهدف هنا ركوب كلّ موجةٍ بأفضل طريقة ممكنةٍ لهؤلاء.
ولأنّ موضوع “كشف التكويع” أو السخرية منه أو مراقبة من يقوم به، كان موضوعًا شعوبيًّا لا منظّمًا ولا رسميًّا، كان من السهل على هؤلاء الدخول فيه والتشويش عليه سواء كان لنشر الشائعات الكاذبة أو تكذيب الحقائق.
ظهر هذا في حملاتٍ كبيرةٍ على المشاركين في بعض المظاهرات الداعية للدولة العلمانية في دمشق، واختلاف الأقوال حول القائمين عليها. فبعضهم بالفعل له ما يدل على مشاركته في التشبيح، ولو بالقول دون الفعل، ولكنّ المعلومات المتضاربة حول هويّات المنظّمين للحدث وحذف المنشورات بسبب التنبيه عليها وتزوير المنشورات والتكذيب المستمر للمعلومات ضيّع الحقيقة.
أضف إلى هذا الخلط بين الخارجين في المظاهرات وبين ما يتظاهرون لأجله كالخلط بين الشبيحة الظاهرين في مظاهرات العلمانية وبين المطالبة بالعلمانية نفسها، وسيخلق هذا حجرة صدى لكلٍ من الطرفين لا يؤمن كلّ من في إحداهما بأيٍّ مما يخرج من الأخرى.
الفلول والثورة المضادة
لكلّ ثورةٍ ثورةٌ مضادة تحاول السطو على مكتسباتها وتحييد أهدافها الحقيقية عن الواجهة، والثورة السورية ليست منيعةً عن هذا، ولو أنّها أكثر مناعةً من غيرها لطبيعة الشعب والثورة الطويلة وأسلوب النصر.
تحاول فلول النظام اليوم الركوب على أيّ موجةٍ يمكن أن تحملهم، فتارةً على مطالبٍ بالعلمانيّة والمدنيّة بغضّ النظر عن حالة الدولة اليوم، وتارةً بالنعرات الطائفيّة دون فهمٍ لحقيقة النصر العسكريّ على الأرض، وتارةً من حساباتٍ لمتلوّنين وأبواقٍ سابقين للنظام ينشرون أخبارًا زائفةً بهدف نشر الهلع والفوضى دون فهم أنّ أقلام هؤلاء مكسورة لدى الشعب بأكمله.
نرى اليوم “التكويع” الإعلاميّ من كثيرٍ من المؤثّرين وأصحاب الأقلام الصحفيّة والإعلاميّة وأصحاب التواجد المصغّر على الأرض ومجتمعاتهم، ونرى كيف يدسّ هؤلاء السمّ بالعسل، وكيف يستغلّون تكتيكات الذباب الإلكترونيّ في نشر أغراضهم، وكلّ هذا يفشل.
ربما من أكبر مكتسبات الثورة السورية القادمة من طول مدّتها وانتشارها على الأراضي السوريّة وأسسها الرقميّة، أننا “حارتنا ضيقة، وبنعرف بعض” – الثورة المضادة مستحيلة، الشعب بأكمله بالمرصاد.
من هو الثوريّ الحقيقيّ؟
يطرح اليوم سؤالٌ مهمّ للغاية بعد سنواتٍ من القمع والكتم في سوريا، وهو سؤال حقٍّ يراد به الباطل غالب الأحيان: من هو الثوريّ الحقيقيّ؟ من يحقّ له الفرح بالثورة؟
هذا السؤال تحديدًا يلعب دورًا كبيرًا في الخلط والفوضى حول موضوع المكوّعين، فهل المهاجرون وأهل المناطق المحررة والمجاهدون في الفصائل همّ من يحقّ لهم الاحتفال؟ أم يشمل هذا المقهورين تحت سلطة النظام في مناطقه؟ أم الرماديين والمعارضين بصمت؟ أم كلّ من تضرر من هذا النظام؟
أولم يتضرر كلّ شعب سوريا من هذا النظام؟ حتّى شبيحته ومن ساهم في الإجرام؟ هل يكذب الشبيح عندما يقول انّه فرح بسقوط الأسد؟
في الحقيقة، فرحة الحريّة حقّ لكل سوريّ، حتّى من كان صامتًا أو على الحياد لسنواتٍ طويلة، ولكل من لم تتلطّخ يده بالدماء. وهذا ما يتّفق عليه الجميع.
لكن ماذا عن المكوّعين المشمولين تحت التعريف السائد؟
ماذا عن من ساهم قلمه أو صوته بسفك الدماء؟ ماذا عن الفاسدين والمرتشين والشبيحة الصغار؟ هل يحقّ لهؤلاء التململ من النظام والفرح بسقوطه؟ وهم مستفيدون منه؟ وهل كلّهم سواء؟
هل الإعلاميّ الحربي شادي حلوة صديق سهيل الحسن، والصحفية العسكرية كنانة علوّش التي داست على جثث الثوار، كالشبيح الذي سلّم أبناء حارته لأفرع الأمن، كالمؤيّد للأسد خوفًا على طائفته الجاهل بغيرها، كالمادح للبراميل والقصف العشوائيّ، كالمنكر للكيماوي؟ هل كلّهم سواء؟
من عيوب لقب المكوّع القاتلة برأيي، والتي تجعلني أتردد في إطلاقه على أحدهم، أنّ كثيرًا من هؤلاء مجرمين لا مكوّعين، ولقب التكويع الساخر يحطّ من مكانة جريمتهم وفظاعتها.
التكويع قد يكون لمن لم يستفد من النظام وكان مؤدلجًا وعالقًا في سرديّاته، أمّا من شارك في الجريمة فهو مجرم.
لم نكن نعلم
ظهرت الممثلة سوزان نجم الدين والممثل دريد لحام وبعض الممثلين الآخرين في مقابلات تلفزيونيّة في الفترة الأخيرة، وأوّل ما برروا به وقوفهم مع النظام المجرم للسنوات الأخيرة، خصوصًا مع مواقفهم التي استهانت بدماء الثوار وكفاحهم، أنّهم لم يكونوا يعلمون ما يجري في أقبية المخابرات والسجون.
يتساءل مواطنٌ سوريٌّ مثلي، هل بالفعل لم يعلم هؤلاء؟
تقع هذه الحجّة الواهية الواهنة أصلًا بتفكيرٍ يتجاوز الثانية بالأمر؛ هل صيدنايا هو “القشّة” التي قسمت ظهر البعير لهؤلاء؟ ولم يغيّر رأيهم بالنظام لا البراميل المتفجّرة ولا عشرات الحواجز في كلّ شارع من سوريا ولا عشرات الفيديوهات من مجازر قام بها في كلّ زاوية من البلاد؟
مجددًا، وصف هؤلاء بالمكوّعين تسخيفٌ لمواقفهم المخزية، ولا يساهم إلا بمساعدتهم على اكتساب ماء الوجه.
وإن كانوا بالفعل جاهلين لما يحدث بسوريا طوال الأعوام الأخيرة، فليكملوا جهلهم بصمتٍ إلى الأبد.
من يفعل هذا يفعل ذاك
من الاستغرابات الكثيرة حول حالة تبديل اللون والانقلاب السريع بالافكار، استغراباتٌ حول “خجل” هؤلاء وكيف لا “يستحون على وجههم” من هذا التقلّب بالمواقف، خصوصًا وأنّ تعليقاتهم ومنشوراتهم ومواقفهم شاهدةً عليهم.
وفي الحقيقة، السؤال كلّه لا منطق منه، فكيف يمتلك من أجرم بحقّ أخوته أيّ قدرٍ من الخجل – بل في الواقع، هذا الخجل يحيل أصلًا بين المرء وأن يبدّل جلده بهذه السرعة.
أصحاب الخجل ومن يمتلكون في أجسادهم ذرّة تعاطفٍ حقيقيٍّ من هؤلاء الذين أجرموا، وحتّى ممن يندرجون تحت فئة “لم نكن نعلم” هم صامتون اليوم، يحاولون العثور على تكفيرٍ لمواقفهم السابقة.
أمّا من ثبت على مواقفه الإجراميّة، فهو مفضوحٌ قبل الثورة وبعدها.
تعقيب وخاتمة
أخطط أن تكون هذه سلسلةً من التدوينات أمرّ في كلّ واحدٍ منها على موضوعٍ يواجه سوريا اليوم، وأشرح بالتفصيل الممل هذا الأمر لمن لا يمتلك فكرةً عمّا يجري في سوريا، ثم أنطلق بعد هذا إلى الحديث عن حلولٍ أو تعليقاتٍ لي على الأمر.
لا أدري إن كنت سأتابع الكتابة في هذه السلسلة بعد هذا المقال؛ فرغم وجود مواضيع كثيرة أرغب التطرّق لها، إلّا أنّي لا أضمن أنّ حماسي للكتابة السياسيّة القادم بعد النصر لن يخبو بعد أسابيع، وأنّ أفكاري حول تلك المواضيع ستتبلور بما فيه الكفاية لأشاركها.