انقلبت منذ سقوط النظام إلى مدوّن سياسيّ بنظر المتابعين القدماء للمدوّنة ربما، لكن في الواقع، أحبّ أن أرى نفسي على أنّي “مدوّن حاجة”؛ فعلى الرغم من أنّ حسابي على تويتر مزدحم بتعليقات عابرة حول ما يستجدّ في سوريا، وهو ما لم يحصل بهذه الوتيرة منذ سنوات، إلا أنّ المدوّنة مصنوعةٌ لما أريد بقاءه في الذاكرة لسنوات طوال وما أرى أنّه “يحتاج” لذكر، لا كلّ ما يجول في خاطري.
وقد التزمت في الحقيقة هذا الموقف لسنواتٍ طوال -أي موقف الترقّب قبل الحديث- بعد عنادٍ كبير تحدّثت فيه عن كلّ شاردة وواردة لسنواتٍ أيضًا، قبل أن أدرك أنّ ما أفهمه في هذه الحياة متناهٍ في الصغر، مقابل ما لا يمكنني تفسيره.
وهكذا تحوّلت هذه المدوّنة من مرتعٍ لأفكار نصف مطهوّة، إلى مكان مركّز، أعمل فيه على المقالات لأشهر وسنواتٍ قبل نشرها، ثم يقرأها مئة ومئتان عند النشر، وتختفي عن الواجهة لأشهر أخرى، قبل أن يجدها أحدهم ويعيد إنعاشها، وهكذا تدور الدورة.
أذكر قبل سنوات، ذكر لي كاتبٌ أحترمه كثيرًا إعجابه بتدوينةٍ محددة، كنت أرى فيها “تنفيسًا عن المشاعر”، كتبتها في بدايات التزامي ضبط النفس كمخرج لكلّ ما كنت أشعر فيه حينها، ومن جملة كلامه عن ذاك المقال أنّه كان نافذةً لما أرى بخصوص الكتابة، أكثر من مجرد تنفيسٍ للمشاعر.
وهنا نصل إلى سياق هذا المقال، فاليوم؛ المشاعر محتدمة، وما على المحكّ عظيم، وكلّ يومٍ يحمل معه تقلّبات كثيرة يمكن اعتبارها “هزّاتٍ ارتداديّة” للزلزال الذي حصل في سوريا، وفي خضمّ كلّ هذا أحاول جمع شتات أفكاري -ومشاعري- كي أكون “فعّالًا” بدلًا من إضاعة الوقت والجهد على ما لا ينفع.
لكن في الواقع، لا أرى أنّ هذا بالإمكان، فمجددًا: الكثير على المحكّ.
أين العدالة؟
يقع السوري -أو أنا، إن أردت الدقّة- اليوم بين نارين، فهو من ناحية، يريد أن يتخطّى ما يستطيع تخطّيه ويكمل ما تبقّى من حياته مرفوع الرأس، ومن ناحيةٍ أخرى يغرق في بحرٍ من الحقد والرغبة بالانتقام، لا ينتشله منها سوى قشّة القانون التي يتعلّق بها آملًا بأن تعيد له الحقوق.
وهذه مهمّةٌ صعبة لمن وكّل بهذه القضيّة، فالعدالة في سوريا معقدة ومتعددة الأقطاب، وكلٌّ يراها على هواه.
يطالب البعض اليوم بالعدالة “متساوية الأطراف” بين الفصائل والنظام، أي أن يقدّم بعض قادة الفصائل عناصرهم وقادتهم للقضاء، تمامًا كما سيقدّم ضبّاط النظام المتطوّعين وسجّاني صيدنايا والعاملين في الأفرع الأمنية.
ولو كان الموقف بذاته سخيفًا للبعض من النظرة الأولى، إلا أنّه قادمٌ بالفعل من سرديّة أكبر، فيها زوايا لا تخلو من الصحّة، وفيها من الهذي الكثير.
تبدأ هذه القصّة من تكوين جيش النظام السابق، فهو بنسبة كبيرةٍ منه مكوّن من مجنّدين إجباريين، لا يختلف اثنين على مظلوميّة الغالبيّة الساحقة منهم، خصوصًا من سيق إلى الخدمة الإلزاميّة لتعذّر الحالة الماديّة للسفر، أو لتعذّر الهرب من الخدمة إلى مناطق المحرر.
هؤلاء، وهذا متفقٌ عليه برأيي، لا ناقة لهم ولا جمل، ومنهم قتلى كثيرون على يد النظام، لرفضهم إطلاق النار أو لانسحابهم من الجبهات أو لغيرها من الأسباب. ومنهم أيضًا قتلى كثيرون في المعارك على يد الثوار، خصوصًا في الأيام الأخيرة.
يبدأ الحديث بعدها عن عفوٍ “عام” يشمل هؤلاء لكنّه يسترق العفو أيضًا لغيرهم، كالضباط والمتطوّعين والعاملين في أفرع الأمن، وكأنهم سواسية. فيكون الرد “لا عفو لأحد منهم” – فيكون الرد المقابل “ماذا عن المظلومين”.
ويزيد هؤلاء أيضًا: ماذا عمّن قام بجرائم من “المعارضة المسلّحة” ومن أجرم في حقّ أبنائنا، ويحاولون إيقاع المقابل في أحد فخّين: إما أن ترفض أن الثوار قاموا بأخطاء في الماضي، أو أن تبدأ حلقة “المقارنات” – ولو بدأناها، فستنتهي حتماً بانحياز كلّ طرفٍ إلى أحقّية دمائه بالعدل، بدلًا من سماع ما يقوله الآخر.
المشاعر عالية، والكثير على المحكّ. وهناك من يلعب على هذا الوتر.
هل أخطأ الثوار في الماضي؟ هل اخطاؤهم بمستوى أخطاء النظام؟ وعلى نفس القدر من العموميّة؟ وعلى نفس القدر من التأثير؟ هل أجرم كلّ عناصر الجيش السابق؟ هل كلّهم تلذذوا بالقصف والتعذيب؟ هل كلّهم ساهموا في نشر المخدرات والاعتقال على الهويات؟ ماذا عن الفاسدين واللصوص من الطرفين؟ ماذا عن الإعلاميين؟ ماذا عمّن نفى المذابح بحق الأطفال؟
يتفق أغلب العقلاء من الشعب السوري على إجابة هذه الأسئلة، ويختلفون على النتيجة منها – لهذا نحتاج إلى الاستكانة لطرفٍ يثق به الجميع لتحقيق العدالة وإجراء الحق على الجميع، قدر الممكن ضمن حقوق المنطق والمعقول.
يلعب الكثيرون اليوم على هذا الوتر الحسّاس -فاشلين إلى الآن- لمحاولة بثّ الفرقة بين الصفوف، وزيادة الاستقطاب، بعض من يقوم بهذا متعمّدا زرع الفتنة، وبعضهم الآخر -مثلي ومثل الكثيرين- مشاعره عالية.
لكن في الحقيقة، الاستقرار اليوم هو الطريق الوحيد لتحقيق *أيّ* قدرٍ من العدالة، لأيٍ طرف، ولا مصلحة لأحد بتقويض السلم الأهليّ إلا من يحاول التسلل بين المظلومين. إدراكنا لهذا يساعد على ضبط النفس.
سلاسل الاستحقاقيّة – من هو الشهيد؟
ترددت كثيرًا قبل كتابة هذا الكلام، لكن لا أجد مفرًّا من الحديث عنه: سنقع في السنوات القادمة وبناء على الكلام السابق نفسه في معضلة الشهداء؛ أيّ الطرفين يعتبر شهيدًا؟، لا بمعنى دينيّ فهذا لا يصح الخلاف فيه أصلًا، وإنما في سياق الميزات والاعتراف الرسميّ.
هل من قاتل داعش -وهي عدوٌ مشترك للطرفين- وقتل في تلك المعارك يعتبر شهيداً؟ وكيف يمكنك معرفة هذا السياق؟ وهل من دفع به النظام إلى الجبهات وقتل فيها مجبرًا تحت الخدمة الإلزاميّة شهيد؟
وهل من قتل من جيش النظام في بداية الثورة شهيد؟ ونحن الآن نعلم أنّ تكتيكات النظام تضمّنت قتلًا للعساكر بأيدي عناصر الأمن لتأجيج النزاع.
لسنواتٍ طوال، قدّمت الدولة السوريّة القديمة لذوي الشهداء “تعويضاتٍ” أقل ما يقال عنها أنّها مهزلة، وصدر في الإعلام كلامٌ كثير عن “سحاحير البرتقال” التي أهداها النظام لعوائل القتلى في مراحل الحرب المختلفة، لكنّها أيضًا تضمّنت مفاضلاتٍ خاصّةٍ للجامعات، ومعاملاتٍ خاصّةٍ في الدولة.
قُطِعت هذه التعويضات اليوم على قلّتها بالكامل، وهناك فئة تطالب بها، وفئة جديدة من ذوي شهداء الثورة تطالب بالاعتراف الرسميّ بهم في نظر الدولة.
شدّ انتباهي في الأيام الأولى لسقوط النظام بعض البيانات التي انتقدت تمزيق صورٍ لمجنّدين في جيش النظام عند دخول قرى الساحل، وامتعاض أهالي هؤلاء من التصرف – خصوصًا أنّ بعضها لم يكن فيه سوى صورة المجنّد مع علم سوريا القديم، دون ذكرٍ لبشار الأسد أو نظامه إطلاقًا.
هل يحقّ لمن قاتل الثوار لسنين طويلة ومدّ عمر النظام، أن يصفّ مصافّ المجاهدين الذين ساهموا في تحرير البلاد؟ ولو كانت نواياه طيبة؟ ولو كان شخصًا لطيفًا؟ ولو كان ما كان؟
يستلل بين هذه الأسئلة مجددًا أصحاب النوايا السيئة، ومن يحاول استغلال هذا التخبّط والخلاف في تبرئة نفسه وأقاربه من الجرائم التي ارتكبها، تحت مسمى “شهيد الواجب”، وهذا بدوره يحاول استثارة الطرفين ليجد لنفسه مكانًا بينهما.
في الحقيقة، المشاعر من الطرفين محتدمة، والسؤال ضخم وليس سهل الإجابة.
أرى أنّ الإجابة الأكثر واقعيّة اليوم هو إلغاء هذه التمييزات بالكامل، فهي أولًا ستشمل كلّ سوريا تقريبًا، فلا يخلو بيتٌ من شهيد قتالٍ أو معتقلٍ أو قصف، وثانيًا لن تكون سوى مصدرًا للنزاع والتمييز، وهو ما لا يمكن تحمّله اليوم في سوريا.
يتراتب بعد ذوي الشهداء مراتب كثيرةٌ اليوم في سلسلة الاستحقاقيّة للتعويضات، يقع فيها أيتام الحرب والمعتقلين السابقين وأبناء المخيّمات والمصابين وأصحاب الإعاقات الدائمة ومدمني المخدرات، وهؤلاء أيضًا يطرحون السؤال، متى وكيف سنعوّض ما فقدناه؟
سلسلة الاستحقاقات هذه وكيف ستسمّى وكيف ستنتظم تحت الدولة الجديدة مشكلة صعبة الحلّ، لكنّ حلّها يبدأ حتمًا من ضبط النفس والهدوء وسماع الطرف المقابل، دون افساح المجال لمن يرغب بزرع الفتنة للدخول إلى الحوار.
نتفق أولًا على من “يستثنى” من هذا، بدلًا عن محاولة الاتفاق على من “يدخل” فيه.
السورييون ليسوا طوائف – هم فئات وطبقات
التحليل الطائفيّ لحياة السوريين اليوم تحليلٌ ضروريٌّ ولا ضير فيه، خصوصًا لفك محاولات النظام السابقة وما نشره بين السوريين من كره وحقد بين الطوائف. على العلويّ أن يدرك جيدًا قدر الجرائم المرتكبة باسم طائفته على يد النظام -وهو متعدد الطوائف، لكنّه ارتكبها باسمهم- وعلى الثوار أن يدركوا أن أبناء الطائفة العلويّة بينهم مظلومون، ولعهود.
هذا التحليل مهمٌ جدًا، لكنّه ليس التحليل الأول ولا الأخير للنظر إلى الحالة السورية، وهنا مربط الفرس.
أرى شخصيًا أن الشعب السوري مفصول في أربع ثقافاتٍ رئيسية، وفي كل ثقافة هناك طبقة غنيّة وأخرى فقيرة، والشرخ بين هذه الثقافات أكبر من ذاك بين الطوائف.
ثقافة المحرر القديم، ومناطق النظام، وتركيا، وأوروبا هي الثقافات الأربعة الرئيسية اليوم، وفي كلٍّ منها فقراء وأغنياء وما بينهما، وكلّ منهم يغنّي في واد.
يسهل جدًا على فقيرٍ من ريف دمشق أن يتعاطف مع فقير من قرية علويّة، ولو كان التوتر الطائفي بينهما وصل عنان السماء، بمجرد فهم خلفيّته وما أوصله لتلك النقطة – لا بل أزيدك من الشعر بيتًا، كلاهما يرى بنية الدولة المستقبلية المثالية بصيغة متشابهة. كلاهما يريد الاستقرار الامني، كلاهما يريد فرصًا للتحسّن الماديّ، كلاهما يريد فرصًا لأبنائه للخروج من هذه المحنة الماديّة.
عاش هذين الشخصين نفس المعاناة تحت النظام، ولهم هموم كثيرة مشتركة، وكلاهما أمام معيشة أبناء المحرر -فقرائهم وأغنيائهم- غريب.
هذا الشرخ يتسع ويضيق بحسب الفئات المتحاورة، لكنّه في أقصى اتّساعه يصل دون مبالغة إلى “حديث لغة مختلفة” – فلو وضعت مثلًا علمانيًّا سوريًا يعيش في ألمانيا، يرغب بنشر الثقافة اللبرالية عبر منظمات حقوق المرأة، في جلسة واحدة مع فقراء مناطق النظام، لشعروا أنّه من المرّيخ.
لكلّ من هؤلاء أولويّاته ونحن نرى اليوم اختلاف هذه الأولويات في نقاشات الناس على الإنترنت التي يغيب عنها “الواقع المعيشي” لأنّ السواد الأعظم من الشعب، وهو العالق في دهاليز الواقع المعيشي وتأمين قوت اليوم، لا يكترث للإنترنت، والدي ووالدتي لا يتصفحون تويتر ولا يكترثون لسلام أحمد الشرع بيده مع وزيرة الخارجية الألمانية ولا يرون أن جلوسه في الوسط خرق للبروتوكول ومشهد كارثي.
هم لا يكترثون، همومهم في مكان آخر.
مع هذا، ومع غيب هذه الفئة الضخمة، حتى الفئات الحيّة على الإنترنت، ولنقل أبناء الطبقة الغنيّة في الداخل، والمتوسطة فما فوق في تركيا، وكل الطبقات في أوروبا، بينها مساحات شاسعة واختلافات كبيرة، ولكل منهم أولوياته.
نقاش شكل الحكم وما يجب على الدولة القيام به وما لا يجب وتفاصيل الاقتصاد والبروتكولات الرئاسية ورسائل المباركات الدولية وتغيير المنهاج وتسريبات الفساد السابق في النظام، كل هذا الجدال يتجاوز فيه الناس رؤوس بعضهم، ويصرخون في الفراغ، ولكل واحدٍ منهم لغة.
ومن الطبيعي أن تجد هذا الاستقطاب صراحةً، فالذباب الإلكترونيّ يبحث عن منفذ لخلق القلاقل، والدول المحيطة غير راضيةٍ عن نمط الحكم ولا يهمّها استقرار البلاد ولا سحق ما تبقى من أملٍ للمواطن في الداخل، ولا يرى منظّرو الشعوب المجاورة ضيرًا في “المراهنة” على فشل الحصان السوري، فلا رهان عليه.
هذا كلّه يصب في توسيع هذه الفجوة بين فئات سوريا وطبقاتها، وكلّما زاد الحماس، تأججت المشاعر، وزاد ما على المحك، كلما زاد الاستقطاب.
وهذا مفهوم، لكن في الحقيقة على السوريين الهدوء – فالحالة المثالية أن كلّ من يتحدّث لغةً مختلفة على الآخر لديه شيء ناقص عند غيره؛ الاهتمام بالجانب الاقتصادي لا يعني أن الجانب الحقوقيّ عديم الأهميّة ولا يجب الحديث فيه، والبروتوكولات مهمة لكن لا يعني هذا أن التفكير بالصحة وتشغيل مؤسسات الدولة بأقل قدر من الفعالية خيار سيء، اعتماد السبل القانونية مهم لكن هذا لا يعني أن البلد تمتلك رفاهيات الوقت والانتظار.
كلّ من هؤلاء يرى البلاد بعين حاله، وكلّهم يمتلك جزءًا من الصورة، والصراخ لا يجدي نفعًا. أفضل ما يمكن القيام به الآن هو المحاولة الجادة لشرح المواقف.
في المقابل، علينا أن ندرك أن التربص بنا كثير، وأن هذا الصراع الداخلي قاتل، وأن نحاول بشكلٍ ما أن “نميّز بعضنا” في المعركة، ولو كنّا على جبهاتٍ متقابلة.
في الحالة المثاليّة، يعمل العلمانيّ المعارض للسلطة الإسلاميّة الحاليّة في سوريا والإسلاميّ المخلص لدينه على شدّ بعضهما للمعسكر المقابل، دون أن يحاول أحدهما تعطيل جهود الآخر. وعلى الكلام بينهما أن يكون حادًا فهذه طبيعة النقاشات، لكن مع ضمان فتح خطوط للتعاون والصلح، فهذا لازم.
وفي الحالة المثالية، أعلم تمامًا عن الشخص المقابل ولاءاته ونواياه، وأتجاهل وجوده بالكامل لو كان فيها ما يدل على تسلله لصفوف فئة ما لكتم صوتها.
في الحالة المثالية يدرك المسلم المخلص اليوم أنّ “مظاهرة العلمانيّة” المركوبة من الشبيحة لا تعني أن كل علمانيّ هنا متسلل ومتسلق وشبيح، وأنّ تسلّق هؤلاء على قضيّتهم يعني، ولو قليلًا، أنّ فيها ما ينفع البلاد وأنّ من هؤلاء كثيرون ينوون الخير وواجب أن نأخذ منهم ما يؤخذ ويفيد.
أرشيف سوريا – صندوق المواجع
رأينا في حرب غزّة استغلالات كثيرةٍ لصور القصف والتجويع والحصار والدمار لمدن سوريّة قام النظام بالإجرام بحقّها، ورأينا كيف استخدمها حلفاء “محور المقاومة” في نشر البروبغاندا على حساباتهم على تويتر، وكيف طعنت هذه الصور والفيديوهات لاحقًا في مصداقيّة المعاناة الغزّاوية بسبب الاستخدام الجائر لها، وكيف استغلّ الصهاينة هذا الطعن لنفي المذبحة التي لا تزال تجري حتّى اللحظة في غزّة.
هذا غيض من فيض، فالمعاناة السوريّة أرشيفها ضخم، يتضمن بين طيّاته فيديوهاتٍ في كلّ بيئة من سوريا ومن كلّ طائفة وبحقّ كل طائفة. هناك فيديوهاتٌ لأشخاص يذبحون باسم الله والحسين وعلي، وفيديوهات لأشخاص يدوسون على الجثث -بعضها مصوّر بكاميرات التلفزيون- وأشخاص يقطعون الرؤوس ويحرقون الناس أحياء، والكثير الكثير الكثير من فيديوهات الدمار والقصف والتفجير.
هذا الأرشيف يمثّل حياة السوريين للسنوات ال14 الأخيرة، وفيه ذكرياتنا وآلامنا وآمالنا كشعب، وفيه نقاط فخر ونقاط أسى، وفيه إثباتاتٌ لمعاناتنا. لكنّه وفي الوقت ذاته سلاح يستخدم ضدّنا يوميًا.
منذ سقوط النظام وإلى الآن، هذا الأرشيف سلاحٌ مسلّطٌ على السلم الوطنيّ في سوريا، يستخدمه ذباب الدول المجاورة في تأجيج النعرات الطائفية، ويستغلّ الناس ما فيه لنشر الشائعات والرعب بين الناس داخل البلاد وخارجها.
وطالما لا يوجد إلى الآن طريقةً سهلةً لتمييز القديم من الحديث بين الفيديوهات، تبقى جودة التسجيل وبعض المعلومات القليلة هي الدلائل الوحيدة على صحّة الفيديوهات وما فيها. خصوصًا مع سهولة تعديل الأصوات في المقاطع، وسهولة اقتطاعها واقتصاص أجزاء منها.
في سياق التحوّل السريع للمجرمين بعد سقوط الأسد، عمدت حساباتٌ كثيرةٌ وأسماء كثيرةٌ إلى زيادة التشويه والتشويش إلى هذا الأرشيف، فعادت فيديوهاتٌ مقتطعة كثيرةٌ للظهور، وعاد التشكيك لكثيرٍ من الصور والمقاطع والمنشورات المصوّرة لحفظها بكونها “معدّلة” أو “محوّلة”.
أرشيف سوريا هذا مهمٌ للغاية، لكنّ الحفاظ عليه من التشويه والإضافة والاستغلال وظيفةٌ صعبة، ولا يسع أيّ مواطنٍ بنفسه أن يقوم بها.
في الحالة المثاليّة، يلعب هذا الأرشيف دورًا محوريًّا في تحقيق العدالة لمجرمي الحرب، ويلعب دورًا مهمًا في فهم الناس لبعضها ولما عاشوه من معاناة، لكنّه اليوم مستخدم في تأجيج المشاعر، وتقليب المواجع، لا أكثر.
الخوف من المجهول
تغيرت خطط السوريين في الخارج اليوم عمّا كانت عليه قبل شهرين، فلو سألتني قبل شهرين إن كان من المحتمل أن أزور البلاد، لنفيت هذا نفيًا قاطعًا، لكنّه اليوم ليس خيارًا، بل حقيقة. أما العودة للاستقرار فيها فهي “خطّة طويلة الأمد” بعد أن كانت “استحالةً لا تقبل التفكير”، وهذا بحدّ ذاته انقلابٌ لم يسبق، لي وللكثيرين.
في المقابل، لم تتغير حياة السوريين في الداخل كثيرًا بعد، عدا حريّة التعبير والانتقاد وبعض التحسّنات المعيشية وانخفاض الفساد، فخططهم ذاتها ذاتها، السفر ربما والعمل في بلد آخر، أو في أسوأ الأحوال البحث عن عملٍ يسدّ الحاجة، أو البحث عمّا يمكن في يومٍ من الأيام أن يخرجهم من البؤس الذي يعيشون فيه.
وبين هذا وذاك، لا يزال السؤال الأكبر حول “مستقبل البلاد” يدور، هل ستكون بلادًا كسابقها من حكم الأسد؟ أم كأفغانستان؟ أم كلبنان والعراق؟ أم ستكون حكومةً قويّةً أم ضعيفة؟ أم تابعة لقرارات خارجية؟ أم ستكون دولةً لا يستهان بها؟ أم سنعود لأمجادنا السابقة أيًّا كانت؟
في كلّ تلك الأحوال، سقف التطلّعات عالٍ جدًا؛ فالسوريون خرجوا وجابوا البلاد، ورأو أفضل وأسوأ ما فيها، ولديهم “خيالاتٌ” كثيرة لما يجب أن يكون عليه الأمر.
وربما يكون هذا الخوف من المجهول إيجابيّ علينا ككل، فالكلّ يريد للبلاد الأفضل، والكل يرغب بالمساهمة في التغيير، وهذا الجمع لن يوقفه أيّ شيء.
علينا أيضًا أن نحذر من “القبول” بشيء ما على أنّه “كفايتنا” من النصر، فقصة الجزرة والعصا هذه عشناها لسنواتٍ ولا يجب أن نعيشها من جديد.
صفعة كلّ يوم كي لا ننسى
ما عشناه تحت بشار الأسد كان أسوأ ما سنعيشه كسوريين، والطريق بعد هذه الحفرة التي وقعنا فيها جميعنا كلّه صعود و”طلعات قاسية”.
مع انتهاء كابوس الاعتقال والسجن والتعذيب المستمر لعقود، سنبدأ للمرة الأولى بتضميد الجروح والتعافي وإعادة البناء – هذا ليس سهلًا ولكن عليه أن يبدأ من مكان ما.
لن نتفق، نحن شعب لا يعجبه العجب، ولا يجب أن نتفق ولا أن يعجبنا كلّ شيء؛ لكن علينا أن نكون واقعيين وأن نشد بعضنا إلى ما فيه خير الجميع.
جراحنا كثيرة، وما يفرّقنا كثير، وطريقنا طويل، ولدينا أعوام وأعوام من المآسي المشتركة، وكلّ هذا يحتاج وقتًا طويلًا -ورفاهية- لتطيب النفوس.
يتربص بنا كلّ من حولنا ولا يرضي أحد أن نعيش هكذا “بحريّة” على نموذج لا يطابق ما قدّموه لشعوبهم، ووظيفتنا جميعًا ألا نعود للتشبيح مرّة أخرى، لا لبشار ولا للجولاني ولا لغيره.
ترك بشار الأسد سوريا خرابة، ولن تصبح يوتوبيا خلال أشهر، نحتاج سنواتٍ طويلةٍ للتعافي وهذا طبيعي. اصبر واحتسب، شمّر عن ساعديك، وافعل ما بوسعك لتصحيح المسار.
المشاعر محتدمة، وما على المحكّ عظيم، وكلّنا في هذا القارب معًا.
السلام عليكم هادي الأحمد..
مبارك عليكم انتصار الثورة على أكبر مجرمي العصر..
وكما قلتَ، نعم فالمشاعر والمفاهيم محتدمة، وكل من له رأي سيقوله.. والإشاعات ستنتشر، والمتربصين كُثُر..
وكما فشلت كل ثورات الربيع العربي السابقة، فهذا يدعو للقلق أكثر.. ويجب على السوريين ألا يتعالوا على نصائح أشقائهم العرب الذين يريدون نجاح تجربتكم فهي نجاح لهم كذلك.. والنموذج الناجح يغري بتكراره..
في وسط المعمعات يجب الرجوع للبديهيات…
– كل الثورات الناجحة تخلصت من النظام السابق.. بالقتل والتصفية أو بالسجن أو الإقامة الجبرية أو بأحسن الأحوال ألا يكون لهم أي مستقبل في الحكم أو زمام الأمور مستقبلًا وتراقب تحركاتهم واتصلاتهم مراقبة صارمة.. معظم ثورات الربيع العربي، أُتيَت من هذا الخازوق.. مهما ادعوا أنهم ليس لهم من الأمر شيء أو “كوّعوا” فهم غير صالحين لمستقبل البلاد قولًا واحدًا.. يجب عدم تدوير مخلفات النظام، ويجب الاتفاق على هذا المبدأ. مما يساعد ثورة سوريا أنها انتصرت عسكريا وليس بانقلاب من الجيش أو تسوية سياسية.. ولكن يجب أن يكون هذا على رأس الأولويات. العدالة الانتقالية هي للأفراد العاديين، وليس لأركان النظام.
– أهم مشكلة تواجهها سوريا حاليا مشكلة الأمن وإحكام زمام الأمور: فلول النظام، والسلاح المنفلت، والفصائل، وقسد.. هذا أهم شيء وعليه أن يكون الإجماع السوري.. تسليم السلاح إلى الدولة وحل الفصائل ودمجها في الجيش.. قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه ويحصل الاقتتال الداخلي أو المسنود خارجيًا. من الأخبار الحالية أن هناك دعم إقليمي لهذا الأمر ويجب حسمه بسرعة.. دعم أمريكا وإسرائيل لقسد ومغازلتها للدروز، ومحاولات إيران لزعزعة الأمن وربما دعم قسد إن تطلب الأمر يهدد ولكن حسم الأمور بسرعة وحكمة وتقديم ضمانات بعدم انتهاك الطوائف، وهو الذي حدث، أمر جيد.. ونرجو الاستمرار فيه بسرعة وحسم.
– ثاني المشاكل هو الاقتصاد والمعاش اليومي، وعلى هذا يجب أن يكون اهتمام الدولة ومساندة الشعب لها، توفير الكهرباء والإنترنت ورخص أسعار المنتجات الغذائية هو في قائمة الأولويات.. إضافة إلى إعادة إعمار البلاد ورجوع مهجري الخيام إلى بيوتهم.. مساعدات الدول الخارجية ورفع العقوبات في هذا الجانب ولكن حذار أن تستخدم للابتزاز أو دعم فصائل لتوجهات خارجية. وهنا ملاحظة أن كثر من الدول التي كانت تصف الثور بالإرهابين وإعادت التطبيع مع النظام لا يمكن أن تكون حمائم سلام أو لن يكون لها تدخل بالشأن الداخلي.. هي سعيدة لانتهاء الدور الإيراني المهدد لها ولكن ستريد المزيد.. وجود تطمينات من الحكومة لكل الدول الخارجية أمر حكيم وذكي جدا ولا تحتاجون في سوريا حاليًا أي عداوات، ولكن على ذوي الشأن الحذر كل الحذر، ولا أن يكونوا ساذجين..
الأمور الأخرى من شكل الحكم، والأحزاب والمسائل التفصيلية تقع بعد ما سبق.. وبتوفيق الله تنجح الحكومة الانتقالية في هذه الأمور..
ويجب عدم رفع سقف التوقعات للشعب، فلن تحدث نهضة الأمة نهضة كبرى تليق بها إلا بعد التخلص من إسرائيل وتوحيد جزء معتبر من الدول العربية والإسلامية.. وهذا يحتاج وقت طويل… ولكن إلى ذلك الحين نرجوا أن تكون سوريا هي النموذج المحتذى.. ونجاحها رغم كل هذه الصعوبات سيسهل صعوبات الدول الأخرى..
وفقكم الله..
وعليكم السلام ورحمة الله، شكراً لك واثق واقدّر بالفعل نصح الأخوة العرب لنا أصحاب الثورات السابقة كي لا نقع في نفس أخطائهم، وأريد تبشيرك أن النقاط الثلاثة التي ذكرتها مأخوذة بعين الاعتبار ويجري العمل عليها سلفا -بحسب معرفتي لما يجري الآن من الناس على الأرض- وهي بالحسبان إن شاء الله.
طبعاً يعيش الشعب اليوم مشكلة في تقبل النصيحة العربية لأن الذباب لم يترك لأصحاب النوايا الحسنة مدخلاً، لكن صدّقني الناس على الأرض محبّة للجيران وتسمع منهم بإصغاء، وهذا المهم.
المشاكل الثلاثة المذكورة بينها مشكلة واحدة “صعبة” وهي انتشار السلاح دون رقابة في عهد النظام، وهي الآن مشكلة قيد الحل، لكن حلّها سيستغرق فترة لا بأس بها، والجيد أنّ وزارة الدفاع الجديدة هي دون منازع صاحبة اليد الأقوى على الأرض، حتّى من يصدر عنهم إشاعات مثل احمد العودة من يسمونه حفتر سوريا، قوام قوّته 600 شخص، مقابل ما يزيد عن مئة الف تحت الهيئة، وخمسين تحت الفصائل الموالية لها (بحسب التقديرات التي قرأتها).
أما النظام السابق فقد تمّ تفكيكه من الداخل بالكامل، والآن لا وجود له على الإطلاق في الحياة السياسية والقلة الحرّة الطليقة تنتظر حصاد رؤوسها المجازيّ – سواء السفراء أو المبعوثين خارج البلاد، وهذا لا تراجع عنه مهما طال الزمن. ومن الناحية العسكرية، هم منبوذون داخل مجتمعاتهم، وشيوخهم مسحوب منهم الثقة من سنوات طويلة – هذا أعلمه من أبناء الطائفة العلوية مباشرة، وأغلبهم أصلاً يميل إلى الإلحاد منذ بداية الثورة بسبب ما رأوه من شيوخهم هؤلاء.
أما الفدرالية والتقسيم فلن تحصل، الحوار مع قسد مستمر، والضغط من تركيا والجيش الوطني مستمر، وإن شاء الله مناطق الجزيرة ستعود دون قتال وهذا أملنا. بقية أجزاء الشعب -ولو شوّه هذا المغرضون- متفقة، وبالغالبية الساحقة العظمى، على أن سوريا موحدة ولا تقسيم فيها.
الوضع على الأرض مختلف عن ما يظهر على الإنترنت جذرياً وهذا ما أراه من تواصلي مع أشخاص من خلفيات وطوائف مختلفة في أماكن مختلفة في سوريا، وكلهم متفقون على أنّ السواد الأعظم يثق بالحكومة الجديدة المؤقتة ولا يطالبها سوى بالكهرباء والماء والاساسيات، ولا وقت لدينا للرفاهيات التي طالبت فيها بعض الشعوب بعد ثوراتها، من يطالب اليوم بالحريات المدنية والاحزاب وما شابه ثلة انترنتية قليلة لا يكترث لها أحد، الناس تريد العيش والأكل، وهذا إن شاء الله أولوية لدى الجميع.
لذا أقول للأخوة العرب لا تقلقوا، وادعوا لنا بالخير، وأمدّونا بالعون ما استطعتم، ونحن على طريق إصلاح إن شاء الله. الأمر الإقتصادي نحن أهله بإذن الله، أعرف شخصيا ثلاث أو أربع مشاريع تستعد الآن لدخول السوق السوريّ من خارج سوريا وإن استمر الأمر على هذا وازداد الاستقرار فاقتصاد البلاد سينتعش بوقت قياسي، كل ما نحتاجه هو الصبر قليلاً وهذا لدينا منه الكثير.
أما العلاقات الدولية فلا تقلق، الشعب السوري محب للشعوب المجاورة لكنه يحذر اشد الحذر من حكوماتها، ولن تجد أحداً مخدوعاً بحركات تحويل المواقف السريعة والتكويع التي تجري اليوم… الواقع أن القوة على الأرض هي الحكم، وهم يعلمون هذا أيضاً، وأوراق الضغط بيد الحكومة الجديدة كثيرة ولله الحمد.
متفائلون تفاؤلاً حذراً