هاف لايف، العجز

في بداية الألفيّة الجديدة، يحدث خطأ في إحدى غرف التجارب في منشأة أبحاث عسكرية سريّة موجودة في نيو ميكسيكو، هذه التجربة التي كانت جزءً من سلسلة تجارب أجراها مجموعة من العلماء بهدف تطوير تقنيّات متعلقة بالانتقال الآنيّ، يؤدي الخطأ هذا لانهيار في بنية الزمكان في تلك المنشأة، ويفتح الباب على مصراعيه بين الأرض، والعالم الفضائيّ الموازي “زين”.

في ذاك العالم – العالم الذي كانت تخطط المنشأة في استغلاله كممر وسيط لتقنية النقل الآنيّ خاصّتها – الحضارة الأصليّة اندثرت بالفعل لنفس السبب الذي ستندثر لأجله حضارة البشر قريباً؛ عرق فضائيّ آخر، يستعمر المجرّات ويسرق مواردها كاملة، سواء كانت علميّة أو ماديّة، ومن ثم يستعبد أو يقضي على أعراقها كاملة قبل أن ينتقل لكوكب آخر ومجرّة أخرى.

اسم الحضارة الذي يمكن ترجمته بشكل أو بآخر إلى “الخليط” يستحقّ فعلاً هذا الاسم، فأفراد العرق الأصليّون يستطيعون التهام الأفكار لتصبح خاصة بهم، وجيوشهم مكوّنة من جنود مشوّهين ومستعبدين ومعدّل على أجسادهم من مختلف الحضارات والكواكب التي سيطروا عليها، والتقنيات التي يستخدمونها ليست نتاج أبحاثهم الشخصية، بل هي الأخرى مغصوبة ومشوّهة.

كحضارة الزين، لم تكن حضارة البشر مستعدة على الإطلاق عندما وصل لها “الخليط”، وبلمح البصر، خلال سبع ساعات، سقطت الأرض.

جهود العلماء الذين حاولوا تصحيح أخطائهم ذهبت سدى، الغزو الفضائيّ حدث بالفعل، والشقّ بين الأرض وعالم الزين لم يسدّ، ليستمر العالمان في التداخل والتصارع على العيش في نفس المساحة بينما ينهش الخليط من أجساد الحضارتين، ويدفع أفرادهما نحو العبوديّة والانقراض.

ملاحظة: لا يتضمن هذا المقال حديثاً عن أيّ من أحداث HL:A وإنما يقتصر على الأجزاء الأربعة الأولى.

النييلانث Nihilanth

كيف يمكن للأرض أن تمتلك أيّ فرصة في مقاومة الخليط إن كان كائن يوصف بالإله في عالمه ويمتلك القدرة على التحكم بالمكان في عالمه عاجزاً حتى عن تحرير نفسه من سيطرتهم على الأقل.

وصول “الخليط” إلى هذا العالم أعلن نهايته، الجزر الطافية في الفضاء هي كلّ ما تبقى من الكوكب أو الكواكب التي كانت تعيش عليها هذه الكائنات، العرق الرئيسي، الفورتيغونت، أصبحوا مستعبدين بالكامل، جزء منهم يحوّل إلى جنود خارقين ويدفعون إلى عوالم أخرى لخوض المعارك باسم حضارة لا يعرفون منها شيئاً، وجزء يحرم من كل قدراته وحقوقه ويستخدم كأداة تشتيت للانتباه في الصفوف الأماميّة. الحيوانات تعبّأ في صواريخ وتستخدم كأسلحة حيوية، وإله هذه الحضارة يستخدم كأداة للنقل، محتجز في حجرة لا يستطيع الخروج منها – لسخرية القدر.

رؤية هذا العرق يفنى بهذه الطريقة، بالأخص من أعين الناس الذين كانوا يعملون في منشأة الأبحاث التي فتحت الجحيم ذاته على الأرض، لا بدّ أن هذا المشهد جعلهم يشعرون بالعجز واليأس، بالأخصّ أولئك الذين حملوا مسؤولية كلّ شيء على عاتقهم.

على الرغم من دأب الحكومة الأمريكية على تغطية الحادثة ومحاولة التخلّص من الأدلة عن طريق محو كل شيء بقنبلة نووية أخيرة، ينجو الكثير من العلماء، بعضهم بمساعدة “طرف ثالث” وبعضهم ببساطة لأنّهم لم يكونوا هناك، ومن هؤلاء كان والاس برين، مدير المنشأة.

والاس برين

فشلت الحكومة بإيقاف الغزو، وبعد سبع ساعات فقط قرر برين الاستسلام، وبدأ يعمل كوسيط بين البشر والخليط في محاولة لإيقاف هذا الغزو، ولكن شروط الاستسلام -كعادتها- كانت قاسية. برين أصبح “مديراً” للأرض، تماماً كما أبقى الخليط على النييلانث في مكانه كقائد “مستعبد” لأجناس الزين، وبدأت عمليات الاستنزاف.

النهاية كانت معروفة، ولكن على الرغم من عجزه الكامل أراد برين أن يضمن لعرقه البقاء -ولو جزئياً- في هذا الخليط.

التعديلات التي وعدها الخليط للبشر الذين يتطوّعون في صفوفهم للقتال تضمن لهم العيش للأبد في أجساد لا تشيخ، أمّا من لم يكن قادراً على خدمتهم فكان يعامل كالماشية، يترك على قيد الحياة، يوفّر له الطعام والشراب والمأوى، ويساق منهم جزء كلّ حين ليحوّلوا إلى عبيد، Stalkers مشوّهين قادرين فقط على إطاعة أوامر أسيادهم دون تفكير.

مُنع الجميع من التكاثر، لأن “مستقبل الجنس البشري” أصبح مضموناً، كل الأحياء الآن سيعيشون للأبد، ولو تضمّن هذا تعديل أجسادهم وخدمتهم في صفوف العرق الذي دمّر حضارتهم. ولو أنّ هذا يبدو كظلم وهزيمة، شعر برين أنّه أفضل الموجود، وعمل جاهداً على أن يبقى البشر ملتزمين بشروط الاستسلام.

ولكن البعض، على الرغم من شعورهم بالعجز أيضاً، يرغبون بالقتال.

إيلاي وآيزاك والإنجيليّة

الاسمان قادمان من مصدر ديني، وقصصهما (في المسيحيّة) تشابه قصص الشخصيات. إيلاي في القصص الإنجيلية يفشل في تربية أبنائه، ويخسرون في الحرب، ويلعن وعائلته ليموتوا جميعاً. في اللعبة يفشل إيلاي في إيقاف التجربة التي يعلم فشلها، ويخسر عرقه في الحرب، ويستعبد ما تبقى منه ليموتوا جميعاً في النهاية. آيزاك في القصص الإنجيلية ابن ابراهيم (عليهما السلام) وبعد عودته إلى أرض فلسطين التي عاش فيها والده وحفر فيها الآبار لسقاية الناس، وجد تلك الآبار مردومة، فأعاد فتحها من جديد. في الجزء الثاني من اللعبة آيزاك يعود إلى نفس التقنيّة التي عمل عليها سابقاً بنيّة خدمة البشرية، وأراد أن تكون مجدداً في خدمة للبشر، علّها تساعدهم في الهرب من الموت.

في الحقيقة، في اللعبة الكثير من الإشارات الإنجيلية، فهي ككثير من الميديا الغربية الحديثة المتأثرة بقصّة المسيح بشدّة، والدليل الأكبر على هذا هو اعتمادها -ككثير من الألعاب والقصص ذات الطابع الغربيّ- على طابع “رحلة البطل” التي تستند أصلاً في جزء كبير منها على قصّة المسيح المخلّص، ومعاناته في سبيل تخليص البشرية من الشرّ. بطل القصة، غوردون فريمان، يشار له في اسم أحد الفصول بال pontifex، الكلمة التي تصف رتبة عليا في الكنيسة، ويشار فيها إلى البابا عندما يضاف إليها وصف “الأعلى أو Maximus” – وهي الرتبة الأعلى في الكنيسة عادةً.

وقد يبدو هذا منطقياً أكثر عند النظر لكون غوردون لا يعود وحده إلى العالم في بداية الجزء الثاني، بل يعيد معه الأمل، على الرغم من العجز المسيطر على حياة الجميع في تلك الفترة… والإشارة الأكبر لكون ما يقوم به فعلاً ليس بأهمّية “وجوده” و”الرحلة” التي يقوم بها كون اختفاءه لبضعة أيام لم يوقف الثورة على الظلم، بل زادها اشتعالاً.

ولكن هذا فقط على السطح، فحتى عندما يكون غوردون هو المخلّص، وعندما يكون الأمل موجوداً رغم العجز، الأحداث تشير لشيء آخر.

الاختبار الأكبر

في نهاية الجزء الأول، تكتشف أن كل شيء قد حصل في الساعات الأخيرة كان اختباراً – ليس اختباراً إلهياً أو خطة أعظم – وإنما اختبار لوظيفة، تلك التي لا يمكنك رفضها بالطبع. هذا “الكائن” الغريب الذي يلحقك في الجزء الأول ويشرف على كلّ ما تقوم به حتّى تنفّذ ما يبدو أنه في النهاية خطته، يثبت لك أنك أنت – البطل – عاجز أيضاً… تماماً كالنييلانث، وبرين، وكل شخص آخر تراه في هذه القصة.

في الجزء الثاني، تبدأ القصة مؤكّدة على أنك مجرد جزء من آلة أضخم، وأن ما تقوم به، مجدداً، لا رأي لك فيه. الطريقة التي تصمم فيها المراحل في اللعبة، باتجاه واحد وبحدود واضحة وبطريقة وحيدة يمكن حلّ الأحجية فيها، يمكن اعتبارها أيضاً جزء من هذه الحدود، هذا القيد المفروض عليك من طرف أكبر.

كيف للبطل ان يشعر بالراحة أو النصر – ولو كان هذا ما يحدث معه فعلاً – عندما يكون هو الآخر عاجزاً عن الاختيار.

قد تبدو خطابات والاس برين البروبغانديّة التي يصدّع رأسك بها في طريقك للوصول إلى مكتبه “هزليّة” إن صح التعبير، وحتى تصرفاته عندما تطارده ويحاول الهرب منك، ربما هو أقل “وحش نهاية اللعبة” وحشية وتهديداً بين كل الألعاب التي لعبتها – وهو حتماً الأسهل والأقل كلايماكتيّة بين الجميع، مقارنة بالنييلانث كل ما يقوم به برين مسرحية هزلية، ولكنّه على الأقل يدرك أنه في مسرحية هزلية ويتصرف على هذا الأساس.

برين يحاول إقناع غوردون بأنه هو الآخر عاجز، وكل ما يحاول القيام به مجرّد “مشاغبة” في رعب حكم الخليط الذي يمكنه مسح الوجود البشريّ في لحظات. ولكنّهما كلاهما في النهاية موظّفين موكّلين بمهمة خاصة – على الأقل برين “يعرف” موظّفيه، بينما غوردون لا “يعرف” سوى الوسيط.

التضاد بين الترميزات الدينية التي تحاول الإشارة للأمل – هذه الترميزات القادمة من البشر عادة، وبين طابع الخيال العلميّ المظلم، واليأس والعجز المسيطران على أغلب الشخصيات المحورية في القصة – هذه الترميزات القادمة من المجهول، سواء كان هنا “الخليط” القادم من كون آخر، أو “الرجل المجهول في البدلة السوداء”، التضاد بين هذين العنصرين هو المحور الرئيسيّ في القصة، ويبدأ هذا بالظهور في الحلقات الإضافية للجزء الثاني.

“الوحشيّة”

في وقت ما، كان كلّ ما يعرفه هؤلاء هو قطعة من الحديد تحطّم إخوانهم في ممر ضيّق، ولكنّهم في النهاية أصحاب الكلمة الأعلى في أحداث القصة، وهم -لا غوردان، البطل- المخلّصون هنا.

في بداية الحلقة الأولى من الجزء الثاني، ينقذك الفورتيغانت للمرة الأولى من أيدي ذاك الرجل، ويضعونه في الحجز. حقيقة أنهم يتكبّدون هذا العناء أثناء حربهم مع عرق لا يمكن إيقافه، يعني أنّ وجوده وتدخّله في الأحداث على الأرض أخطر من أي شيء آخر موجود في تلك اللحظة.

ربما كانت الفرصة التي استغلّوها نتيجةً حتميةً لرغبات الرجل ذي البدلة السوداء في الأرض، وربما كانت خطّة سريّعة عملوا عليها لقلب الموازين، وربما كانوا ببساطة يعملون لطرف آخر – الأمر الوحيد الواضح، أن الحريّة التي تنالها في الحلقة الأولى والثانية من الجزء الثاني، ولو كانت رمزية، ولو كانت خياراتك تؤثر “قليلاً” على ما يحدث في الجزئين هذين ولو كانت لا تؤثر على المسار الكلّي للقصة، إلا أنها أفضل من لا شيء، وهي موجودة بفضلهم.

الحرية التي جاءت بشكل قدرتك على إنقاذ بعض افراد المقاومة، وتجنّب دمار بعض الأبنية في الغابة، وحتى سباق الكلب للوصول إلى القاعدة – حريّة هائلة بالمقارنة مع المسار المرسوم الذي مشيت عليه في الأجزاء السابقة.

الوحشيّة الظاهرة لهؤلاء ليست سوى نظرة مستبقة بسبب أشكالهم، ولكن عند النظر إليهم عن كثب ستجد أن حضارة الفورتيغانت تسبق حضارة البشر وتمتلك صفات تجعلها أكثر قدرة على أخذ الخلاص بالقوّة، وهو ما يحاولون القيام به بمساعدة البشر.

في البداية، الفورتيغانت ليسوا أغبياء، في أكثر من موقف ستراهم يرتدون ملابس المختبر البيضاء ويساعدون فريق العلماء الأذكى في تنفيذ اختباراتهم، ستراهم أيضاً يتفاعلون مع البيئة بذكاء، مستغلّين قدراتهم الكهربائية لاستخدام أدوات البشر، وحتى تطويرها بالاستعانة بأدوات قادمة من حضارة الخليط. ستراهم أيضاً يستخلصون مواداً من الكائنات القادمة من عالمهم، ويقاتلونها بفعالية.

والأهم من كلّ هذا، أنهم على تواصل دائم، ف”حواسّهم” تعمل بطريقة مشابهة لشبكة الانترنت، ويشيرون لمن يفقد اتصاله لسبب ما بأنّ “حواسه انقطعت” مما يعني أن لهذا التواصل أهمّية هائلة في حياتهم.

استخدام الأشكال الغريبة للفورتيغانت، وطريقة الكلام البطيئة والمشوّشة، وحتى التصرفات البدائية في طريقة قتالهم وتعاملهم مع الكائنات من حولهم، ربما تكون حركة مقصودة لتشتيت انتباه اللاعب عن كونهم جزءً من القوّة الضخمة التي يمكنها أن تقاتل على جبهتين هائلتين في الوقت ذاته – وتنجح في ذلك.

وبعد التفكير في الأمر، الوحيدون الذين لا يمكن اعتبارهم عاجزين، حتى بعد سنوات من الاستعباد والقتل وفقدان الموطن والدمار، الكائنات المتوحّشة التي حطّم “البطل” رؤسها في الجزء الأول من اللعبة، وتجاهل وجودها في الجزء الثاني من اللعبة، كانت هي الأحق بلقب البطل في هذه القصة.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *