تنبيه: في هذا المقال حديث مطوّل عن قصّة نير أوتوماتا والألعاب المرتبطة بها – إن لم تنه اللعبة حتّى الآن، لا تتابع القراءة.
بإرادة الوعيّ الجمعيّ للآلات المرتبطة حول العالم، وفي محاولة أخيرة لتمديد وجودها على هذا الكوكب، بدأ النظام بفصل وحدات مختلفة منه لتمتلك وعيها الذاتيّ، معطياً إيّاها أوامر أخيرة – بعضها كان قابلاً للتطبيق، والبعض الآخر كان مستحيلاً.
لدينا باسكال، القرويّ المسالم، الذي تلقّى أوامره ببناء قرية تتعايش مع الآندرويد بدلاً من قتالهم.
آدم وإيف (آدم وحوّاء) الّذان ولدا -حرفياً- من رحم العجز، بعد أن تلقّت مجموعة من الآلات أوامر بالتكاثر كما البشر، بالطبع دون وجود أيّ سبيل لهذا، لتتخطّى عجزها هذا بالإندماج في جسد واحد على هيئة البشر.
إنجلز المحبوس في جسد مدمّر قرب الفجوة في الأرض، الذي ينهي حياته “تكفيراً لخطاياه” في النهاية.
الآلات الحكيمة التي ترمي نفسها من أماكن مرتفعة مختلفة حول المدينة بعد أن تدرك عبثيّة وجودها.
طرد هذه الآلات وعشرات الآلات الأخرى خارج الشبكة كان ضروريّاً، فبقاءها متّصلة يعني أنّ الحرب مع الآندرويد ستنتهي بسرعة بنصر الآلات، وهذا بدوره سيعني أنّ وجودها على هذا الكوكب سيصبح دون هدف، بالأخصّ بعد قضائها على صانعيها – الفضائيّين. الفصل هذا لإضعاف صفوف الآلات، وفي نفس الوقت لإنشاء تجارب على الوعي الذاتي الجديد المكتسب، ربما تخلّصها من حاجتها لإطاعة الأوامر بخصوص قتال الآندرويد في المستقبل، وتصبح قادرة على التخلّص منهم دون عواقب.
باختصار، الآلات قتلت آلهتها، وأصبحت في الطريق إلى التخلّص من حاجتها إلى آلهة نهائيّاً.
ولكن، بين كلّ التجارب التي حدثت بعد انفصال الآلات عن الشبكة، كانت هناك تجربة مثيرة للاهتمام؛
الديانة المختلّة – Deranged Religion
تتجمع الآلات الموجودة في المصنع المهجور تحت بنية كنسية، وعلى رأسها آلة وعدت البقيّة بالعثور على الإله، الإله الذي يستطيع بث السكينة والأمل والراحة في قلوب الآلات الضائعة التي لم تعلم ما عليها فعله بعد أن طردت من الشبكة.
رأس الكنسية هذا يقتل نفسه. دافعاً بقيّة الآلات الموجودة في المصنع إلى حالة جنونيّة تقودهم لقتل نفسهم وأيّ آلة أخرى موجودة حولهم، سواء كانت من أتباع الديانة الجديدة أم لا، مع صراخ المتكرر “نصبح كالآلهة” مع مقطع موسيقيّ يحمل نفس الاسم.
هذا الجزء من القصّة غريب جداً، فلا توضيح مباشر لما يعنى بهذه الجملة لا ضمن الأحداث ولا على لسان الشخصيات، كل ما تمتلكه طوال محاولة هربك من المصنع هو الموسيقى الخلفيّة مترافقة مع الجنون المحيط بك، ولهذا برأيي عدّة أسباب.
هذا الفصل من قصّة اللعبة -بالإضافة لفصل آخر سأذكره في النهاية- يمسّ واحدة من الرسائل الرئيسيّة التي ترغب اللعبة بإيصالها، والحديث عنه والمبالغة بتفسيره مباشرة سيفسد المتعة على اللاعبين.
في الحقيقة، غياب التفسير هذا يسمح للمشهد بامتلاك عشرات المعاني التي يمكن استنتاجها، ليس فقط على مسار القصّة نفسه، بل على المعنى المرغوب بإيصاله.
فمثلاً، قد تكون رغبة الآلات هذا بأن “تصبح كالآلهة” قادمة من اكتشافهم لموت الفضائيّن -صانعيهم؛ آلهتهتم- ورغبتهم بالموت للّحاق بهم.
قد تكون أيضاً رغبة في التخلص من عبء الوجود، فإن كانت الحياة بالنسبة لهم شقاءً وتعاسة -مدلولاً على هذا بكلامهم عن السكينة التي عثرو عليها بعد أن دخل الربّ في قلوبهم- فالموت هو الراحة الأزليّة، خصوصاً عندما لا يكون لديهم هدف حقيقي في قتال الآندرويد.
ربما رغبتهم في الموت قادمة من ظنّهم أنّ هذا الموت سيعيدهم للشبكة التي جاؤوا منها، الشبكة التي يمكن القول عنها الآن أنّها -بذاتها- إله الآلات الجديد، فهي قادرة على رميهم في جحيم أو نعيم، وإعطائهم وعياً ذاتياً وإجراء الاختبارات عليهم، وقادرة على إبقائهم على قيد الحياة أو إنهاء حياتهم في أيّ وقت.
أيّاً كان السبب، قرار الآلات بالانتحار لم يكن مفهوماً لأحد -لا اللاعبين ولا شخصيّات القصّة- لأنّ اللعبة لا تحاول التعرّض لمفهوم الإله بتلك الطريقة على الإطلاق، بل تحاول وضعه في سياق مختلف، وهذا ما يقودنا لمكان آخر في القصّة، يذكر فيه الإله بشكل صريح.
لحمٌ وروحٌ وإله
في المسار الثالث من اللعبة يظهر برج في الحفرة الكبيرة التي خلّفها الإنفجار في بداية اللعبة، ومهما كانت الشخصيّة التي اخترتها لمتابعة اللعب، سيطلب منك زيارة “وحدات استرجاع الموارد” الموزّعة حول المدينة، لكل واحدة من هؤلاء اسماً محفوراً على بابها. الأولى، صندوق اللحم. الثانية، صندوق الروح. الثالثة، صندوق الإله.
من ناحية طريقة اللعبة والتصميم، يبدو أنّ هذه الوحدات تركّز على أساليب معيّنة للقتال، الأولى على سبيل المثال تركّز أكثر على القتال الجسديّ والمعارك المباشرة – يمكنك بالطبع اختراق الآلات ولكنّها تشجّعك أكثر على القتال بالسيف بنظري، كونها تضمّن الكثير من الوحدات الضعيفة والتي يصعب اختراقها جميعاً. الثانيّة تركّز على الاختراق، والألعاب المصغّرة التي تتضمنها اللعبة، ولا تركّز أبداً على المعارك المباشرة.
أمّا الثالثة فتحاول الجمع بين أسلوبيّ اللعب، وتضيف أجواء أكثر قتامة لما يحدث، ما يتضمّن إطفاء الأنوار وبناء منصّات متعددة ضمن ساحات القتال في كلّ طابق. وفي النهاية القتال الأخير مع مسؤولة التواصل التي رافقتك طوال اللعبة.
في النظرة الأولى، قد تعتقد أنّ هذه الوحدات الثلاثة هي محاولة الآلات في فهم البشر، الذين يبدون من الخارج عبارة عن كتل من اللحم التي تحمل روحاً وتلاحق إلهاً. ولكنّ الموضوع مختلف، الآلات لا تحاول فهم البشر، بل تحاول تحويلك أنت -الآندرويد في القصّة- إلى بشريّ. يحاولون إعطاءك جسداً وروحاً وإلهاً لتقاتل من أجله.
في الصندوق الأوّل ستلاحظ أنّ الآلات تسقط الكثير من المواد والنقود اللازمة للتطوير (اللحم). في الصندوق الثاني وبعد كلّ اختراق ستحصل على رقاقة لتطوير قدراتك (الروح) وفي الصندوق الأخير ستقاتل صديقاً قديماً، لتكون تلك اللحظة الدافع الأخير للانتقام من الآلات، وامتلاك هدف جديد -مختلف تماماً عن الهدف الذي بدأت به اللعبة (انقاذ البشريّة)- وهو هدف القضاء على الآلات.
العقل الجمعيّ للآلات قام هنا بالإطاحة بالإله القديم؛ البشر، وعيّن إلهاً جديداً على كائن قام برعايته وصناعته والمساهمة في وجوده؛ أحد جنود يورها. وما يجعل هذه التجربة أكثر نجاحاً أنّ يورها، المصنوعون لقتال الآلات، يمتلكون “قلباً” كالآلات، قادم من الحضارة الفضائيّة، بدلاً من الذكاء الاصطناعيّ الذي صنعه البشر ووضعوه في الآندرويد.
إن نجحت التجربة على يورها، فمن الممكن نظرياً أن تصنع الآلات لنفسها هدفاً جديداً.
الحصول على هدف جديد هو كلّ ما تريده الآلات أصلاً، هم لا يريدون أن يصبحوا آلهة، ولا أن يعثروا على الآلهة، ولا أن يصنعوا الآلهة. كل ما يريدونه ببساطة هو امتلاك هدف للحياة، يدفعهم للاستمرار، بدلاً من الحاجة لقتال الآندرويد بناء على أوامر صنّاعهم.
وبينما لا تقدّم اللعبة إجابة واضحة عن معضلة الإله والهدف والوجود -كما كلّ الأعمال الفنّية التي سبقتها في المحاولة- لا تخجل القصّة أبداً برأيي عن نعت العقل الجمعيّ للآلات “الشبكة” بأنّه إله زائف، بداية من عرضه على شكل “توأم” لكل منهما قراره المنفصل، ونهاية بتمجيدها للفردية والمبادرة الشخصيّة في المعركة الأخيرة (تقديم خيار التضحية بكلّ بيانات لعبتك مقابل إنقاذ شخص آخر يحاول إنهاء اللعبة في مكان آخر).
النصر في النهاية للفرديّة، لجنود يورها المولودين خارج الشبكة، المنفصلين عنها، القادرين على الولوج إليها عند الحاجة وبإرادتهم. والفشل الذريع للعقل الجمعيّ المغرور، الذي يرتبط وجوده بوجود الشبكة نفسها، ويعتمد عليها ليحقق استمراره، حتّى لو عنى هذا التخليّ عن أجزاء منها لصالح “الخير الأعظم” محاولاً إحلال نفسه مكان الإله.