هل تجعلك العزلة شخصاً أكثر حكمة وفهماً للذات؟

كشخص يعيش بمفرده فعلياً منذ ما يقارب الخمس سنوات، أردت الاستزادة في الإجابة على سؤال وردني على CuriousCat بخصوص “العزلة” والسبب في رغبتي هذه بالاستزادة رغم اعتيادي تجنّب أخذ الأسئلة على تلك المنصّة بالجدّية الكاملة وتجاهلي الكامل لها في الأيام الأخيرة، هو أنّ لهذا الموضوع قدرة على فتح الكثير من المواضيع الأخرى برأسي.

لم تكن مهمّة وضع هذه الأفكار كلّها بصياغة مفهومة أمراً هيّناً على الإطلاق؛ وهذا سبب التأخير بالنشر، فلم أُرد نشر كلام “نصف مطهيّ” أو “ناقصٍ” عن الموضوع. أردت أيضاً أن أتأكّد تماماً أنّ ما أريد قوله هنا هو أمر تعايشت مع فكرة التخلّي عن سرّيته وشخصيّته في حياتي. والموازنة بين هذين الأمرين لم تكن سهلة.

بأيّ حال، لا أظنّ أن المقال -حتّى بصيغته النهائية- سيكون “متسلسلاً” كما العادة في مقالاتي الأخرى، وقد يبدو وكأنّه مزيج بين محاور عديدة لا تفضي إلى نتيجة واحدة، ولكنّ تواجدها في مكان واحد أكثر منطقيّة برأيي من فصلها في تدوينات مختلفة مثلاً – فهي جميعها إجابة على السؤال.

ولكن قبل أن أخوض في المحاور، سأحلّل رؤيتي للسؤال الوارد، وإضافاتي عليه ليصبح كلامي أكثر مفهوماً في السياق.

السؤال

“هل اختلاء المرء بنفسه يخليه يستوعب أشياء كتير ويمكن يغير نظرته للمواقف والأشخاص ويفهمه نفسه واللي يبغاه أكتر؟”

في السؤال عدّة تفاصيل تستحق التوضيح، وأوّلها هو

مفهوم “اختلاء المرء بنفسه”

لأنّه لا يعبّر تماماً عن نوع محدد من الخلوة ولا اتّفاق على تعريفه. 

على سبيل المثال: شخص يسكن وحيداً ولكنّه يختلط يومياً بالآخرين لا يعتبر “منعزلاً” بناء على تعريفي. آخر يتجنّب الاختلاط ولكنّه يعيش مع آخرين قد يكون “منعزلاً” بناء على طريقة ومقدار تجنّبه الاختلاط.

الكثير ممّن أعرفهم “منعزلين” رغم عيشهم في منازل مكتظّة فقط لتجنّبهم للتفاعلات الاجتماعيّة، وآخرون غير منعزلين رغم سكنهم وحدهم لتفاعلهم الدائم مع الوسط الاجتماعيّ المحيط بهم.

شخص يسكن وحيداً ويمتلك دوائر اجتماعيّة رقميّة حيّة وحميميّة لا يعتبر منعزلاً برأيي. المجتمعات الرقميّة -خصوصاً في السنوات الأخيرة- تنوب بما يكفي عن التفاعل اليوميّ فهي مركز لتجمّع زملاء العمل والأصدقاء والعائلة.

نظراً لهذا الاختلاف في التعريف، لا أستطيع تماماً تعريف نفسي كشخص “منعزل” بالمطلق. وتفسير موقعي من هذه الخريطة لن يكون ممكناً دون مشاركة بعض التفاصيل الشخصيّة لوضع كلّ شيء في سياقه.

لنبدأ بالبديهيّات: سكني وحدي في مدينة بعيدة جداً عن المدن التي يسكن فيها أصدقائي إضافة للجائحة التي سببت سفر أغلب معارفي الموجودين في هذه المدينة، كلّ هذا يعني أنّ “اختياري العزلة” أسهل منه عند  الأغلبيّة. 

اختياري العزلة يعني ببساطة قطع الإنترنت وتجنّب السفر وكلاهما أمر فعله أسهل من عدمه. 

هذه السهولة تجلب معها الكثير من الميزات والعيوب، وسأخوض في هذا لاحقاً، لكن ما أريد التركيز عليه هنا هو وجود هذه “السهولة” أولاً، وفكرة أنّ “العزلة” ليست أمراً مرتبطاً بالزمن ثانياً. على الأقل في حالتي؛ لا يهمّ هل يستمرّ الأمر لساعة أو لشهر، يمكنني اختيار الوقت الذي أقطع فيه تواصلي عن العالم الخارجيّ ومدّة هذا الانقطاع.

أضيف أيضاً لهذه البديهيّات طبيعة عملي على الإنترنت عن بعد، هذا العمل يعني أمرين؛ أولّهما أنّ الشبكة ليست فقط مكاناً لتجمّعي مع الأصدقاء والعائلة، بل فيها أيضاً “مساحة المكتب” ودوائر عملي، وثانيهما أنّ نظرتي “للحياة الواقعيّة” و”الحياة الرقميّة” مختلفة بسبب ارتباط أغلب جوانب حياتي بهما معاً، فكلّ منهما يؤثّر بالآخر بشكل لا يمكن حصره، واستخدام هذه المصطلحات للتمييز بينهما لا طائل منه بنظري خصوصاً في الحديث عن العزلة والحياة الاجتماعيّة.

امتلاكك لحياة اجتماعيّة على الشبكة – أصدقاء على الشبكة – عمل على الشبكة – معارف على الشبكة، مماثل تماماً برأيي لمقابلاتها في حياتك “الفيزيائيّة”ولا أعتبر أيًّا منهما أكثر “واقعيّة” من غيره.

مفهوم “استيعاب أشياء كثيرة”

ما توفّره لك العزلة ليس هو “الاستيعاب” بنفسه، بل الوقت الكافي لتعالج الأفكار بالسرعة التي تناسبك، وهذا قد يكون إيجابياً أو سلبياً وسأخوض فيه لاحقاً أيضاً، ولكن ما أريد الإشارة له هنا أنّ العزلة بنفسها لا توفّر لك شيئاً سوى الوقت، كلّ ما ينتج عن هذا الوقت هو أعراض جانبيّة لامتلاكك له، وأنت من يقرر طريقة استغلالك له. 

سواء كان هذا الناتج هو الاستيعاب الأكبر، الملل، فهم الحياة، إتقان ألعاب الفيديو، الانغماس في الفنّ، التعبّد، التأمّل، إطلاق الخيال؛ كلّ هذا ناتج فرعيّ عن الوقت الحرّ الذي تحصل عليه من بقائك وحيداً.

وتتمّة السؤال أيضاً تقع تحت هذا “فتغيير النظرة للمواقف والأشخاص وفهم النفس وما يريد الشخص” ليست نابعة من العزلة نفسها، بل من طريقة استغلالك للوقت الذي توفّره.

يمكنك الجلوس مع صديق تثق به، محادثته بما يجول بخاطرك، طلبك المساعدة منه، نقاشه وفهم وجهة نظره، تبادل الأفكار معه كما تتبادلها مع نفسك وسيكون لهذا تأثير مشابه لتأثير الوحدة في سياقات فهم المواقف والأشخاص والنفس والرغبات.

الرومنسية

ربما أصبح حديثي عن هذه النقطة مملاً لمن اعتاد قراءة مقالاتي، لكنّ أحبّ التذكير بها دائماً؛ أنا أبغض الرومانسية الزائدة في التعامل مع الظروف والصفات النفسية، في سياق العزلة على سبيل المثال، أبغض أيّ حديث يجمّلها ويجعلها “كوول” وقادرةً على حلّ المشاكل كلهّا وفتح العين الثالثة لمن يمارسها.

وكلامي هذا يشرح مقدّمتي الطويلة عن السؤال نفسه، وعن تحليلي لمكوناته  قبل الخوض بما أعتقد أنّه من عيوب العزلة أو ميّزاتها. أردت أن أقول بالمختصر: العزلة ليست كما تعتقدها، ليست “مللت من ظلم البشر وأريد العيش في الجبال مع الحيوانات” وليست “الجنة من غير ناس ما بتنداس” وليست “الكتب والقراءة هي أصدقائي ولا حاجة لي في غيرها” وليست “الأشخاص المنعزلون سيموتون وحدهم بحزن” وليست “الحكمة في تجنّب صراعات الناس وصراخهم”.

العزلة حالةٌ تأتي وتذهب، تنفع وتضرّ. وما يقرر تأثيرها هو طريقة التعامل معها فحسب.

لا شيء رومنسيًّا وكوول فيها.

العزلة المغوية

الرومنسية الزائدة في الحديث عن العزلة ونظرة الناس السطحية لها تغويهم عادة بأخذ قرارات غير موفّقة قد ترتدّ للانفجار في وجوههم أسرع مما يتصوّرون، وهذا ما أراه في السنوات الأخيرة خصوصاً بعد الجائحة، مع محاولة الكثير ممّن أعرفهم للعيش وحدهم والعمل من المنزل، وفشلهم في هذا بسبب التباين الحادّ بين صورة العزلة المرسومة في أذهانهم وبين واقعها.

العيش في منزلٍ وحيداً ليس بالضرورة الطريق المضمون نحو العزلة – على العكس، قد يكون الطريق المضمون نحو حياة اجتماعيّة حافلةٍ إن أردت، لكنّ الغرق فيها بعد أخذ هذه الخطوة سهلٌ لدرجة مرعبة، لا يكتشف الشخص عادة كم من السهل قطع الاتّصال بالعالم الخارجيّ بعد إغلاق باب المنزل ورمي الهاتف على طاولة بعيدة.

وعندما يكتشف الشخص أن العزلة بذاتها لن تريحه من المشاكل والهموم، ولن تجعله حكيماً، ولن تعطيه فجأةً بتعويذةٍ سحريّة القدرة على الإنجاز والتعلّم فقط لأنّ المشتتات التي تحيط به اختفت، حينها سيكون أمامه خياران، وكلاهما مرّ إن كان قد أنفق مبلغاً ليحصل على هذه العزلة كالدفع للعيش في بيت منفصل أو الانتقال لمدينة أخرى: الخيار الأوّل هو العودة للحياة السابقة أو التمسّك بها قدر الإمكان وهو مكلفٌ ماديّاً وجسدياً، والثاني هو مواجهة هذا الشعور وهو مكلفٌ نفسيّاً.

بحسب ما رأيت، الخيار الأوّل هو الأكثر شيوعاً، والخيار الثاني نادراً ما يعود على صاحبه بخير.

ولكنّ المشكلة الأكبر في هذا ليست القيمة الماديّة ولا المعنويّة التي سينزفها الشخص برأيي من هذه المحاولة، بل في وجود هذا الحاجز الهائل الذي يمنعك أصلاً من “استغلال” هذه العزلة أو حتّى محاولة التصرّف فيها – مهما كان هدفك.

ولهذا أقول إنّها مغوية، لأنّها تعدك بكلّ خير ولكنّها ترمي عليك أثقالاً حين لا تظنها ستفعل، وهذا يضعك في حالة من الصدمة التي تمنعك لفترة طويلة من فعل ما أخذت هذه الخطوة لأجله – وقد ينتهي بك الأمر عائداً  لحياتك السابقة، بل قد تصل  لاستنتاج مختلف في النهاية لما تريد فعله أو الاستمرار به.

الحلّ لهذا برأيي هو تقبّل وجوده والاستعداد له وفهم كونه مرحلة انتقاليّة ضرورية يجب أولاً خوضها قبل الانتقال لمرحلة تحاول فيها  الاستفادة من هذا الوقت الإضافيّ.

إدراك الوقت

أصعب ما في التعامل مع الوقت الحرّ الناجم عن العزلة برأيي هو فهم الطريقة التي “يختفي” بها هذا الوقت، وليس حديثي مثلاً عن لعب ألعاب الفيديو أو قراءة رواية والانهماك بها لدرجة تدفّق الوقت حولك دون أن تشعر، الحديث هنا عن الوعي الزمنيّ وصعوبة تتبعه وقياس قيمته دون “معيار” معتاد.

على سبيل المثال، لو جلست مع صديقك على زاوية الشارع ساعتين للحديث عن رغباتكما في الحياة وما تريدان فعله، لن تشعر بأيّ ضغط بسبب “ضياع” هذا الوقت في التفكير والتأمّل وخوض التجربة الإنسانيّة تلك، لأنّ هذا الأسلوب في تمضية الوقت خاضع لمعيار معتاد، يمكن لك فهمه والقياس عليه بسهولة؛ حتّى لو لم ينتج عنه أيّ نتيجة مباشرة أو قيمة ملموسة.

لو فعلت الأمر ذاته وحيداً، وجلست لنفس المدّة تتأمل وحدك لن يكون لهذا التأمّل التأثير ذاته، خصوصاً أنّ جلسات التأمّل لا تفضي مباشرة إلى نتيجة، وهذا يضع المزيد من الحمل عليك لإخراج “قيمة” هذا الوقت وإدراك سبب “اختفائه”. في هذه الحالة، لا معيارَ مسبقًا موجود لقياس هذا.

بالطبع، قد تجد كلا المعيارين فعّالًا عندك، وربما يكون معيارك لقياس قيمة وقت التأمّل أسهل من محاولتك لفهم وقياس قيمة الحديث مع صديق، وربما تفتقد لكليهما، وهذا كلّه ممكن، لكن ما أريد الإشارة له هنا هو أنّ “تقدير القيمة” يختلف جذرياً بين وجودك مع شخص آخر، وبين بقائك وحيداً، حتّى عند القيام بما قد يقود إلى النتائج نفسها.

وهنا برأيي تأتي أهميّة فهم الاختلاف بين ما يجول في خاطرك وحديثك مع نفسك، وبين ما تفضي به للناس، حتّى أولئك الذين تثق بهم، لأنّ هذا الفهم سيساعدك في التخلّص من ضغط هائل وشعورٍ غير منطقيّ بالذنب على ضياع الوقت.

الإنسان كائن اجتماعيّ بطبعه

لا يمكنك، ولا بأي حال من الأحوال، الاستعاضة عن التجربة البشريّة مكتفياً بأمر آخر كالكتب أو ألعاب الفيديو أو البرامج الترفيهيّة أو التعليميّة أو غيرها، ومن يحاول إقناع نفسه بهذا واقع في محض وهم، ربما تكون العزلة “أسهل” للبعض من محاولة بناء حياة اجتماعيّة، ولكنّها حتماً ليست “أفضل” له – إن كان المقصد بالأفضل هنا هو امتلاك تجربة ذات معنى في الحياة.

وبالطبع، النقاش عمّا يعنيه قول “تجربة ذات معنى” هنا طويل، ولكن شخصياً، أجد التجربة ذات المعنى في الحياة هي تلك التي يصبح فيها الشخص مع التقدم في الزمن أكثر حكمة ووعياً وفهماً لذاته ولما يحيط به – وهو للمصادفة ما كان السؤال عنه في البداية.

الخروج يومياً والغرق في حياة منجرفة مع الآخرين دون أيّ انعكاس ذاتيّ ووقت خاصّ لمعالجة ما يجري أيضاً ليس صحيّاً على الإطلاق، فكما قلت سابقاً، التوازن هنا هو الأهم برأيي.

التفكير والمبالغة في التفكير

ربما تكون فرصة التفكير والتأمّل إحدى أصدق وعود العزلة التي تُقال، ولكنّها الأخرى كإدراك الوقت وقيمته تختلفُ جداً عندما يكون المسيطر الوحيد على النقاش هو أنت ذاتَك، الاختلاف هنا هو رسم الحدّ بين التفكير والمبالغة بالتفكير، متى عليك التوقّف ومتى يكون التوقف مبكراً؟ لن تكون الإجابة واضحةً دائماً.

على عكس نقاش الأفكار في مجموعة أو مع شخص آخر، من الصعب الوصول لنقطة “التنازل” التي يرى عندها الجميع أن النقاش والتفكير في أمر ما يجب أن يتوقف، وهي النقطة عادة التي تسبق التنفيذ أو التخلّص من الفكرة أو تركها لوقت لاحق، وهذا ما يجعل “العمل” وحيداً، خصوصاً عندما يكون الدافع الوحيد لهذا العمل هو الرغبة الذاتيّة، أمراً صعباً بشدّة.

أعاني نفسي من المبالغة في التفكير عندما يتعلق  الأمر بتنفيذ الأفكار التي أرغب بالعمل عليها وحيداً، خزانة المشاريع الكبيرة الموجود فيها اسمي دليل كافٍ للإشارة لهذه المشكلة – هذا المقال نفسه مرميّ في خزانة الملفات منذ أسابيع، وكلّما أردت إضافة فقرة أو العمل عليها أغرق في التفكير وأترك الكتابة والعمل على المقال نفسه ليوم آخر.

عندما أقارن قدرتي على أخذ المبادرة وإنهاء التفكير في مشاريعي الشخصية التي أعمل عليها وحيداً وأعطيها حقها وزيادة من التفكير والتأمل، بقدرتي على أخذ المبادرة والتنفيذ في عملي المدفوع مع بقية فريق الشركة على سبيل المثال، من الواضح أن قدرتي على أخذ القرار ومعرفة الحدود التي يجب أن يتوقف عندها التفكير ويبدأ التنفيذ في الحالة الثانية أكبر بكثير، رغم أن استمتاعي في الحالة الأولى أكبر.

أجد شخصياً أنّ امتلاك هدف ما من كلّ جلسة تفكير، خصوصاً عندما يكون الأمر متعلقاً بحالةٍ نفسيّةٍ ما أو تفكّر بتصرّف سابق، يجعل الغرق والمبالغة في التفكير أمراً غير محتمل ويساعد حتّى على رسم حدود معيّنة تساعد على الخروج وبدء التنفيذ أو ربما أخذ الخطوات الأولى.

أجد أيضاً أنّ الاكتفاء بالوصول لحالٍ “جيّد بما فيه الكفاية” أفضل من السعي للمثاليّة في كلّ شيء، وهذا يساعدني عادةً على تخطّي محاولة الوصول لأفضل نتيجة في جلسة واحدة، بدلاً من ذلك أفضّل التركيز على أخذ خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح، حتى لو كانت تلك الخطوات ناقصةً أو غير “مثاليّة”.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *