الشخصيات الصامتة في الألعاب القصصية – سلسلة كتابة القصص [6]

من أكثر ما أجده مثيراً للاهتمام في الألعاب كوسط لرواية القصص تحديداً، هو الطريقة التي يتعامل فيها وسطٌ تفاعليّ كهذا مع بناء شخصيّة اللاعب الذي تجري عليه أحداث القصّة – فهذا المجال في حرفة الكتابة لا يظهر نفسه في أوساط أخرى سوى الألعاب التفاعليّة، ويفرض على الكاتب حدوداً وشروطاً إضافيّة تجعل مهمّته في صناعة الشخصيّة أمراً جللاً.

فالاقتناع بالشخصية الرئيسية التي يطلب صنّاع اللعبة من اللاعب أن يضع نفسه مكانها، يلعب دوراً كبيراً في الاستمتاع -بمختلف معانيه- عبر عيش أحداث اللعبة من أعين تلك الشخصيّة.

وعلى الرغم من أنّ المجال متّسع وأنواع الشخصيات الرئيسيّة كثيرة، إلا أنّ قصص الألعاب عامّةً تحتاج لضرب توازن مثاليّ جداً بين قدرة اللاعب على “تلبّس” الشخصيّة وتخيّل نفسه مكانها وبين تميّز الشخصيّة وقدرتها على العيش في أذهان اللاعبين جميعاً بصورة متشابهة يمكنهم الاتفاق عليها.

لا يعني اختلال التوازن هذا مشكلةً دائماً، فهناك ألعاب تسلب من اللاعب قدرة التحكم بالكامل، وترسم شخصيّةً كاملةً له لا يمكنه التحكّم بقراراتها ولا بكلماتها، وبعضها تضع السيطرة الكاملة تحت يديه، وتسمح له بتخصيص شكل الشخصية واختيار الطريقة التي ستتقدم بها خلال القصة. وفي الحالتين تجد ألعاباً جيدةً وممتعةً ميكانيكياً وقصصياً.

لكن في الألعاب التي تضع اللاعب في جسد شخصيّةٍ صامتةٍ أو شخصيّة قليلة الكلام، أجد هذا التوازن أكثر أهميّةً وتأثيراً على تجربة اللعب؛ فاللعبة هنا تراهن على قدرة اللاعب على فهم دوافع الشخصيّة الرئيسيّة عبر ما يجري حوله من أحداث في العالم، وعلى قدرته على الانغماس في تفاصيل هذا العالم. لكنها أيضاً تراهن على قدرة اللاعب على تقمّص هذه الشخصيّة والتفكير كما “يجب” في سياق أحداث القصّة.

وما يشترك فيه الكثير من شخصيّات الألعاب الصامتة الأيقونيّة برأيي، هو التناغم بين القصّة المسرودة وتصرفات الشخصيّة وتصرفات اللاعب المتوقعة أثناء اللعبة. اجتماع هذه العناصر جميعها في مكانٍ واحد يجعل تجربة “العيش” في تلك الشخصيات تجربةً لا تنتسى، ويتفق الجميع على تميّزها.

لهذا مثلاً نرى غوردن فريمان – Gordon Freeman بطل قصّة لعبة Half-Life كأحد أشهر الشخصيات الصامتة في صناعة الألعاب، فعلى الرغم من عدم ظهور وجهه سوى على غلاف اللعبة، وعدم سماع صوته مطلقاً فيها، وعدم تأثيره إطلاقاً على سير أيّ من الحوارات، يبقى غوردن تمثيلاً ممتازاً لما تعنيه Half-Life برأيي؛ الخطّيّة والتسليم للقضاء أو العجز عن تغيير المحتوم.

غوردون -أو اللاعب إن أردت- يسير في اللعبة ويستمع لكلام الشخصيات الأخرى فيها ولا يؤثّر هذا على أيّ من الأحداث، لن تتقدم القصّة ما لم تقم بما يرغب “صنّاعها” أن تقوم به، لهذا لا منطق من قدرة غوردون على الحديث، فلن يؤثّر أيّاً مما يقوله على الأحداث.

وهذا العجز عن التأثير جزءٌ من القصّة، ففيها يظهر G-man وهو من يسيّر غوردون في الطريق المطلوب منه، دون أيّ سلطة للّاعب على تغيير هذا المسار.

وهذا مناسب جداً لسلسلة ألعاب اشتُهرت دوماً بأنها “استعراض للقدرات التقنية” قبل كلّ شيء، فهي لا تهدف فقط لإمتاعك عبر ميكانيكيات اللعب، بل تهدف أيضاً لإبهارك من ناحيةٍ تقنيّة بتلك الميكانيكيات، وتضعك في مواقف تتيح لك تجربتها في عالمٍ منهار بغض النظر عن تأثيرك على ذاك العالم.

مع ذاك، وسواء نظر اللاعب للقصة كما أسلفت أم لا، يبقى غوردون شخصيّة أيقونيّة في عالم الألعاب، لأنّه يمتلك كلّ ما تحتاجه شخصيّةٌ في ذاك السياق: هويّة عامّة مميزة بما فيه الكفاية لتذكرها، لكنّها مجوّفة بما فيه الكفاية كي يقدر اللاعب وضع نفسه مكانها وتخيّل الأحداث من منظوره.

غوردن فريمان فيزيائيّ مخضرم لكنّه يضع نفسه في وجه الخطر ببسالة وعلى الرغم من أنّ هذا يودي بحياة الكثيرين أثناء سير القصّة، إلا أنّه مبرر؛ فإنقاذ العالم موضوعٌ أهمّ من إنقاذ أيّ شخص بعينه، أو هكذا تريد القصّة أن تقنع اللاعب من اللحظات الأولى لها، وهذا ما يدفع تحرّكات اللاعب خلال عالمها بتركيز فائق على الذات والأهداف الشخصيّة.

مع كلّ إعادة للّعبة، يمكنك كلاعب إدراك مدى عبثيّة ما تقوم به في السياق الأكبر، ومدى ضررك على عشرات الشخصيات التي تموت بسبب أفعالك، ومدى “سطحيّتك” كشخص ينظر للكارثة التي تجري في عالم القصّة دون اكتراث سوى “بتجربتك” أنت.

لكن هذا مناسب والتناغم بين الشخصيّة المجوّفة لغوردون وتفكيرك المركّز على اللعب والاستمتاع باللعبة وبين سير أحداث القصّة ومعناها موجود، ودفع اللعبة لك بالاتجاه الصحيح واختيارك لذاك الطريق “بإرادتك” هو ما يجعل هذه اللعبة جيدةً.

الصورة المرسومة في أذهان اللاعبين عن غوردن فريمان على أنّه فيزيائيّ بطوليّ رائع راكلٍ للمؤخرات تأتي من إقناع اللعبة للاعب أن ما يقوم به أثناء أحداث اللعبة هو كذاك تماماً، عبر التوجيه الصحيح له، وعبر أحداث القصة، وعبر تصرفات اللاعب في عالمها.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *