الفصل الرابع: الذباب الإلكتروني

في الحرب العالمية الثانية، وبالتزامن مع المعارك الضارية على أرض أوروبا، كانت ألمانيا النازية تشنّ حرباً موازيةً من البروبغاندا عبر الراديو، حرباً استهدفت كلّ الدول المعادية بلغتها الأم.

ما ميّز ألمانيا في هذا الاستهداف أمران؛

الأوّل أنّها لم تعتمد في هذه الحرب على أصواتٍ ألمانيّة، بل اعتمدت أصواتاً من مواطني تلك الدول التي حاولوا استهدافها، ولم تكن هذه الأصوات مجبرةً أو مأسورةً بل أصواتاً مقتنعةً حقّاً بالفاشيّة والعقيدة النازية.

والثاني أنّها لم تستهدف في أغلب الأحيان إقناع الناس بالعقيدة النازية وبأحقّيّتهم في النزاع، بل حاولت غالباً تأليب مواطني تلك الدول على حكوماتها وأوطانها، ومحاولة بثّ التفرقة بين صفوف أهلها وسكّانها.

المثير للاهتمام في هذين التكتيكين أنّ ألمانيا النازيّة تفوّقت في تلك الفترة على حلفائها بفارقٍ كبيرٍ في هذا السياق، ففي اليابان، حاولت الإمبراطورية اليابانية إجبار المساجين على إقامة بثوثٍ إذاعيّة مشابهةٍ ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الخيار الخاطئ أدّى لاستغلال هؤلاء المساجين البثوث الإذاعية للسخرية والاستهزاء، وإطلاق الدعابات الجنسية والقراءات الهزلية – كما في حالة “طوكيو روز“.

في المقابل في إيطاليا، قامت الدولة الفاشية بتوظيف الشاهر الأمريكي الشهير “د. ازرا باوند” في “راديو روما” الذي قام في فترة عمله في هذا الراديو ببث البروبغاندا الآريّة مباشرةً وشارك كرهه وحقده على اليهود دون فلاتر.

في الحالات الثلاثة، لا يمكن القطع بأنّ هذه البروبغاندا لعبت دوراً مؤثّراً كبيراً في الحرب، ولا يمكن القول أنّ واحدً منها كان أفضل دون الآخر بدلالةٍ إحصائيّةٍ قطعيّة، لكن من الواضح جداً أنّ هذه التكتيكات بمختلف أنواعها في بثّ البروبغاندا ما تزال صالحةً حتّى اليوم، وتستخدمها بعض الجيوش الرقمية اليوم في تنظيم عمل الذباب الإلكترونيّ.

تعريف الذباب الإلكترونيّ

مصطلح الذباب الإلكترونيّ من المصطلحات العربيّة الرقميّة القليلة جداً التي ربما لن تجد لها مقابلًا دقيقاً بالإنجليزية، رغم أنّها “كتقنيّة” مستوردة من الخارج.

إن أردت تعريف الذباب الإلكترونيّ لشخصٍ أجنبيّ فستحتاج غالباً إلى ذكر البوتات المؤتمة – Bots والناس المدفوع لهم لتشجيع القضايا – Astroturfers ومطاردي المال – Grifters والمؤدلجين – Ideologues والجيوش الرقمية – Cyber Armies. ومع ذلك، كل هذه العناصر ليست هي “الذباب الإلكترونيّ” بحدّ ذاتها، بل طريقة العمل المنظّمة بينها هي ما يجعلها ذباباً.

مصطلح الذباب الإلكترونيّ يعبّر عادةً عن الحسابات الموجّهة بمختلف أنواعها، حيث تحاول مجموعة الحسابات هذه نشر فكرة أو كبحها أو تشكيل مجموعة ضغطٍ على شخصيّةٍ معيّنةٍ أو محاولة تحويل الرأي العام حول موضوعٍ معيّن أو تنفيذ أجندات دولةٍ أو وكالةٍ استخباريّةٍ معيّنة من خلال حرب المعلومات – Info War أو الميمز – Memes.

تكتيكات الذباب الإلكترونيّ

لنتفق أولاً أنّ الذباب الإلكترونيّ يعمل لصالح جهات كبرى عادةً كالدول والمنظمات الاستخباراتية، لذا فإنّ أهدافه الحقيقية متوائمة حتماً مع أهداف تلك الجهة؛ بل يمكنك حتّى الاستدلال على أهداف هذه الجهات من خلال تحركات الذباب الإلكترونيّ التابع لها.

لكن ضع أيضاً بعين الاعتبار أن كثيراً من تكتيكات الذباب الإلكترونيّ تعتمد على دفع نافذة أوفيرتون – Overton Window نحو اتجاه ما، وهذا يكون عادةً عبر اعتماد الذباب الإلكترونيّ لعقائد متطرّفةً جداً، لا ترغب الجهات الدافعة لهؤلاء بالوصول إليها، بل يكفي تقريب الناس منها.

تعبّر نافذة أوفيرتون عن اختلاف المقبولات في مجتمعٍ ما عبر الزمن، مثالٌ بسيطٌ على دفع نافذة أوفرتون عبر الزمن: ازدياد القبول لمتابعة الأنمي ولعب ألعاب الفيديو مع الوقت في أغلب المجتمعات، بعد أن كانت من الأمور التي ينتقد الشخص لأجلها في سنوات سابقة. قد يكون تغير النافذة باتّجاه الرفض أيضاً لا باتّجاه القبول فقط.

لكن ضع أيضاً بالاعتبار أنّ الدفع سيواجهه دوماً دفع مقابل، سواء من الناس المستهدفين أنفسهم أو من جهاتٍ تمتلك مصالح مضادة، لذا مجرّد الدفع باتجاهٍ واحدٍ وتوظيف تكتيكات تعمل باتّجاهٍ واحدٍ لن ينفع، وكما المعارك على أرض الواقع كرّ وفرّ، كذلك المعارك الرقميّة.

عبر هذه النقاط الأساسية الثلاثة، يمكنك فهم الكثير من السياقات المختلفة حول آليّة عمل الذباب الإلكترونيّ، وأسباب اختلاف مكوّناته وما الدور الذي يلعبه كلّ منها.

دور تويتر

الساحة الأكثر شيوعاً للحرب الرقمية التي ستجد فيها كثافةً عالية للذباب الإلكترونيّ اليوم هي تويتر = إكس، وهي التي تظهر فيها التكتيكات الأكثر شيوعاً والأحدث بحسب ما أراه، ثم تجد في منصّاتٍ مثل يوتيوب وفيسبوك وانستاغرام سياقاتٍ مختلفة، لكنها تتبع نفس الأساسيات لتلك التي تراها في تويتر.

وهذا بالمختصر سبب استخدامي لكثيرٍ من الأمثلة من تويتر في الفقرات القادمة، جلّ الأمثلة ستكون منها.

والسبب وراء انتشار هذه الحروب الرقمية في تويتر اليوم بسيط أيضاً، فالحسابات المزيفة في انتشار منذ شراء إيلون ماسك للمنصة، والجهات الممولة للذباب الإلكترونيّ في احتفالٍ مستمر منذ إعلان زيادة الوصول للحسابات “الموثقة = المدفوعة”، فلو كان المال هو العائق الوحيد لظهور ما يرغبون بإظهاره للعامّة، فلا مانع من إنفاق الملايين.

تويتر اليوم منصّةُ تبني نموذجها الربحي برأيي حول هذا النظام الجديد للحروب الرقمية، وعليك النظر إليها على أنّها ساحة معركة، لا وسيلة للتواصل. المزيد من حسابات الذباب الإلكتروني = المزيد من المال لإيلون ماسك. بغض النظر عن الجهة التي تشتري هذه الحسابات أو تمولها أو تساهم في تقوية وصولها. (وتحقق من قائمة مستثمري تويتر لتعرف من له مصلحة في هذا).

التكتيك الأول: الإغراق – Spam

ستجد في تويتر ثلاث أنواعٍ من المنشورات الجدلية كثيرة التفاعل:

  1. منشورٌ يذكر أمراً ما بالإيجاب أو السلب، وتعليقاته كلّها مطابقةٌ لرأي الناشر.
  2. منشورٌ يذكر أمراً ما بالإيجاب أو السلب، وتعليقاته كلها مخالفة لرأي الناشر.
  3. منشورٌ يذكر أمراً ما بالإيجاب أو السلب، والتعليقات كلها لا علاقة لها بالموضوع الأصلي.

في كلّ الحالات يحدث إغراقٌ للعابر على هذا المنشور والراغب بمعرفة آراء الناس حوله، وفي كل الحالات هذا مستهدف.

الإغراق المطابق

رأينا هذا التكتيك في الفترة الإنتخابيّة في تركيا تجاه السوريين المقيمين فيها، فكثرت المنشورات التي تؤجج ضدهم، وعليها عشرات آلاف التعليقات التي توافق أصحاب المنشورات وتدعو لترحيلهم.

اندرجت هذه التعليقات كلها تحت راية حزب الظفر المعادي للاجئين، ولو كنت تستخدم تويتر في تلك الفترة لظننت أن غالب الشعب التركي سيصوت لهذا الحزب أو يتفق معه. في الواقع، لا يتجاوز عدد المنتسبين لهذا الحزب 45 ألف شخص من أصل 84 مليون مواطن تركيّ.

حصل هذا الحزب في الانتخابات المحلية على 0 إدارة بلدية – أي أنّه وبالمقارنة حتّى مع حزبٍ غير رائج مثل حزب الرفاه الجديد، فشل في جمع أي أصواتٍ حقيقية.

الهدف من نشر هذا الحزب لرأيه بهذه الكثافة على منصات التواصل الاجتماعي هو رسم صورة مزيفة حول مدى التأييد الذي يمتلكه والذي يمكن أن يحصل عليه في الانتخابات، وقد أثّر هذا بالفعل على عدّة نواحٍ من الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا على اللاجئين والمواطنين في الوقت نفسه.

قد يكون من أهداف حركة هذا الحزب بهذا الشكل محاولة دفع نافذة أوفيرتون باتّجاه الضغط على اللاجئين وتحويل بعض آراء الناس الموجودين في الوسط على هذه القضية باتّجاه رفض تواجدهم في البلاد، وقد يكون السبب وراء هذا التوجه أو رغبتهم في تحقيق هذا التوجه مدفوعاً من جهات استخباراتية أو حكومية داخلية أو خارجية.

بغض النظر عن الهدف، يمكنك رؤية النتائج من هذا الضغط اليوم.

الإغراق المضاد

المعاكس تماماً للحالة السابقة، ونراه اليوم بشدّة في تكتيكات الحسبرة الإسرائيلية التي تردّ بردودٍ “تفسيرية” على كلّ من يحاول نشر الجرائم المرتكبة في غزّة خصوصاً في الغرب وباللغة الإنجليزية.

تكتيك الحسبرة الإسرائيليّ يندرج تحت تكتيكات الإغراق المضاد، ففيه لا يحاول من ينشر الردود نفي المعلومة أو إنكارها دائماً، بل يردّ بأنّ “إسرائيل قامت بالفعل الصحيح” ويحاول شرح هذا الموقف.

ترى هذا في ردود حسابات الحسبرة على أخبار القصف والمجازر في غزّة اليوم التي تبرر هذا بحجّة الدروع البشريّة و”الإرهابيين المحتملين” وغيرها من الحجج.

يعمل الإغراق المضاد على جبهات عديدة في المعركة:

فهو من ناحيةٍ يشغل حساباتٍ حقيقية أصحابها أشخاصٌ لديهم وقتٌ محدود، بالنقاش والجدال مع حساباتٍ وهمية أصحابها يدفع لهم لتضييع الوقت وإثارة الجدل.

يستخدم في هذا أيضاً تكتيكات فرعية مثل “السؤال الملغم” الذي يطرحه هؤلاء لجرّ الناس إلى مزيد من النقاشات التي لا طائل منها عبر صياغة وجهات النظر بصيغة “سؤال بريء” يدعي فيه صاحب السؤال أنّه لا يعرف الإجابة.

ومن التكتيكات المستخدمة في الإشغال هذا “لعب الطرفين” = أي أنّ الحساب الناشر للفكرة الأصلية، والحسابات التي تردّ عليه، كلها تتبع لنفس الممول في النهاية، والهدف فقط إضاعة أكبر قدر ممكن من وقت وجهد المتابعين.

يعزز الإغراق المضاد أيضاً عند هؤلاء المتابعين شعور العجلة والإضطرارية للرد، ويرفع من شعورهم بالعزلة والمظلومية والتفرد والوحدة، ويشجّعهم هذا على إغراق المزيد من الوقت في الردود.

المثير للاهتمام في مصطلح الذباب الإلكترونيّ أنّه نفسه مستخدمٌ وبكثرةٍ من الذباب الإلكترونيّ أنفسهم، وأنّه يستخدم في الدفاع والهجوم، ولتعكير المياه وتشويش مفهوم المتابع الخارجيّ حول طرق استخدامه الحقيقية.

مثالٌ بسيطٌ على هذا: لنقل أنّك تدرك تماماً أنّ حساباً ينشر منشوراتٍ تحرّض على قتل وتشريد فئة معيّنة من الشعب هو حسابٌ من الذباب الإلكترونيّ. لكن هل سيخطر لك أنّ حساباً معادياً لهذه الفكرة، لكنّه يعظّم من شأن من ينشرها ويبالغ في التخويف منها، قد يكون أيضاً جزءاً من نفس الحملة؟

في معارك الذباب الإلكترونيّ ليس من النادر أن تجد الطرفان يدفع لهما من الجهة نفسها. فالهجوم على فكرةٍ ما مهمّ بقدر الدفاع عنها.

ومن ناحية أخرى، يعمل هذا التكتيك على إقناع الناس أنّ الرأي الموجود في المنشور الأصليّ ليس رأياً شائعاً ولا مثبتاً اثباتاً قاطعاً، مما يرفع مستوى الشك في أذهان المتابعين العالقين في الوسط واللذين لم يقرروا بعد.

ومن ناحيةٍ ثالثة، يلعب الإغراق المضاد دوراً في نشر الشائعات والأخبار الكاذبة تحت الأخبار الحقيقية، ويعمل على الاستفادة منها لصالح الهدف النهائي.

ومن ناحية رابعة يلعب الإغراق المضاد على خوارزميات الشبكات الإجتماعيّة التي تعتمد على السلبية والجدالات الطويلة مثل تويتر، ويزيد هذا الجدال من ظهور هذه المنشورات والردود ويعززها في أذهان كل الأطراف.

إغراق الكتم

ولهذا النوع من الإغراق دورٌ كبيرٌ في إضاعة الأفكار التي لم يجد جيش الذباب الإلكترونيّ رداً لها بعد، وقد يكون هذا الإغراق مصمماً بذكاء لكتم الأفكار دون الظهور بمظهر السبام المكروه والمرفوض من أصحاب هذه الحسابات.

بعض أساليب إغراق الكتم التي قد تراها في تويتر تشمل إغراق التعليقات على رأي سياسيّ بإعلانات لخدماتٍ لا علاقة لها، أو بروابط جمعيات خيرية، أو بمنشورات منسوخة ومكررة تؤيد قضية موازية لا يشعر صاحب المنشور بخطرٍ من وجودها تحت منشوره.

ترى هذا أحيانا تحت بعض تغريدات الأخبار من غزّة، التي تغرقها الحسابات الإعلانية بحملات التبرعات مجهولة المصدر والفيديوهات المنسوخة والمكررة والاقتباسات التي لا طائل منها.

قد يكون إغراق الكتم نابعاً من صاحب الحساب نفسه أيضاً، فهو طريقة جيدة للحصول على تفاعل كثير على التغريدات دون إثارة الجدل، وقد لا يكون في هذه الحالة نابعاً من جهة حكومية أو استخباراتية – مجرد شخصٍ مهووسٍ بالشهرة.

الإغراق ككل

تستغل حسابات الإغراق عادةً خوارزميات وبنى المنصات التي تنشر عليها لتظهر في القمة، فعلى سبيل المثال في تويتر يمكن لهذه الحسابات شراء الاشتراك المدفوع لضمان ظهور الردود في قمة التغريدة، وعلى فيسبوك يمكنها شراء التفاعل على التعليق ليبقى في القمة، وعلى يوتيوب يمكنها شراء المشاهدات والتعليقات ليتعزز ظهورها في الخوارزمية.

يمكن اعتبار الإغراق سيفاً ذا حدّين، فهو من اسمه لا ينفع إلا إن كان قادراً بالفعل على تخطّي مستوى التعليقات الأصلية – تحلّ هذه المشكلة غالباً إن كان الحساب الأصل والحسابات المضادة كلها تتبع نفس الجهة.

من مشاكل الإغراق أيضاً أنّه قد يكتشف بسهولة، ويمكن للطرف المقابل اعادة استخدامه وتوظيفه لصالحه بسهولة نسبية. وهو أيضاً “دافع” قوي لبقاء الكثير من الناشطين الفعالين على الإنترنت.

التكتيك الثاني: الاختراق – Infiltration

وليس المقصود هنا هو الاختراق – Hacking بمعنى اختراق الأجهزة أو الحسابات وإعادة استخدامها، بل الاختراق بمعنى الدخول بين صفوف فئة معيّنة واكتساب الثقة داخلها قبل إنجاز الهدف النهائي.

قد تستمر عمليات الاختراق لسنوات طويلة حيث يبني الحساب ثقته بين فئة معيّنة من المستخدمين قبل أن يظهر نواياه الحقيقية للعلن. وقد يكون الأمر أسرع من خلال بناء الحساب وجمهوره بالكامل من طرف الجهة أو الوكالة الاستخباراتية. وقد يكون الأمر أكثر بساطةً بكثير من خلال شراء الذمم المباشر لبعض المؤثرين.

مقارنة بالإغراق، يمكن اعتبار الاختراق هجوماً موجّهاً ودقيقاً وأكثر قدرة على زرع فكرة معيّنة في أوساط معينة بنسبة نجاح كبيرة.

ما عليك الانتباه له في حالة الاختراق أن الأفكار التي يمكن زراعتها من خلال هذا الأسلوب يجب أن تكون موجودةً سلفاً بصياغةٍ أخرى ضمن الوعي الجمعي لأصحاب التوجه الذي يهدف لاختراقه. الاختراق يستغل شروخ موجودةً سلفاً بين أصحاب قضية معينة.

مثالٌ واضح على هذا في الفترة الأخيرة انتشار حسابات “جنسية كذا خارج السياق” التي تساهم في تعزيز بعض الشروخ الداخلية في بنية المجتمع الناطق بالعربية على الشبكة، والتوقيت المزامن للحرب على غزّة ونشاط هذه الحسابات وانتشار منشوراتها في اللحظات الحاسمة لهذه الحرب دليلٌ واضحٌ على الهدف النهائي منها.

لا يعني هذا أن الأفكار السلبية من جنسيةٍ معيّنة تجاه أخرى غير موجودة أو أنّها مزروعة ومزيفة بالكامل، على العكس، هذه الأفكار السلبية موجودة، لكنّها ليست بهذه الضخامة ولا بهذا التأثير. الهدف من هذه الحسابات هو زيادة التأثير والتضخيم لهذه المواقف وزيادة شعبيتها.

لاحظ أيضاً أن هذا الأسلوب واضحٌ في الاختراق، وفي أغلب الأحيان لن يكون الاختراق بهذا الوضوح.

إن كنت تتابع الأخبار والمؤثرين السياسيين على تويتر، انتبه دوماً لأصحاب الآراء الشاذة التي لها بعض الأصول في التوجه السياسي الذي ينتمون له، والتي تعتمد على دفع الرأي باتجاه معين؛ لاحظ مثلاً بعض الحسابات السورية المعارضة التي بدأت بالترويج للرواية الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، أو بعض الحسابات المصرية المؤيدة التي بدأت تروج للعزلة عن العالم العربي واعتناق الهوية المصرية.

لهذا النوع من الاختراقات أهدافٌ عديدة، وقد بدأت تظهر في الآونة الأخيرة استخدامات غير مألوفة لهذا التكتيك:

الاستخدام الأكثر شيوعاً للاختراقات هو التخذيل الداخلي: وقد شاهدنا هذا في بعض المؤثّرين المحسوبين على القضية الفلسطينية، الذين تحوّل خطابهم في مرحلة ما بعد بداية الحرب الأخيرة على غزّة إلى خطاب تخذيليّ يميل للرواية الإسرائيلية.

استخدام آخر أقلّ شيوعاً يكون عبر الدفاع الهشّ عن المعتقدات، حيث يلعب كثيرٌ من المؤثّرين من هذا النوع دور “الصورة النمطية” للتوجّه الفكريّ الذي يدافعون عنه، ودورهم هنا هو خسارة النقاشات وتقديم حججٍ ضعيفةٍ تشكك المؤّيد وتعزز نظرة المعارض لما يقولون.

مثالٌ على هذا الكثير من الحسابات لمؤثّرين أتراك ناطقين بالعربية والتركية، “يدافعون” فيها عن اللاجئين السوريين بحجج واهية وباتّخاذ مؤقفٍ معادٍ جداً للمجتمع التركي، ما يضرّ بموقف السوريين في البلاد ويرفع من الحنق عليهم ويرفع الاستقطاب بينهم وبين الأتراك.

طريقةٌ سهلةٌ جداً لتمييز هذا النوع من الحسابات تكون عبر النظر في الردود على منشوراتهم، لتجدها في الغالب ردوداً لآراء معارضة بحججٍ قويّة أو أقوى من حجّة صاحب المنشور، تضع هذه الردود صاحب المنشور في موقف الخاسر – وغالباً ما يمثّل هذا الشخص دور المنتصر رغم معرفته بضعف حجّته ليحافظ على استمرار الحساب.

هذا لا يعني أنّ كلّ مؤثّرٍ لا يستطيع الدفاع عن معتقداته يصنّف حتماً في هذه الفئة، فهناك فعلاً مؤثّرون أصحاب حججٍ ضعيفةٍ وأساليب فاشلة في النقاش.

التكتيك الثالث: الاستقطاب الفائق – Hyper Polarization

كما أسلفت في بداية المقال، تميل الكثير من تكتيكات الذباب الإلكترونيّ إلى اتّخاذ آراء متطرفةً جداً في النزاع: سواءً للتأثير على نافذة أوفيرتون، أو لزيادة الجدل حول المواضيع، أو لبناء قاعدةٍ جماهيريةٍ متطرفة.

لا تنس أيضاً أنّ “استمرار المعركة” في كثير من الأحيان هو هدفٌ رئيسيّ من أهداف هذا الذباب، لذا لا تستبعد حتّى أنّ “الكرّ والفرّ” بين أطرف الصراع مخططٌ له؛ شاهد كيف تموّل الحكومة الروسية طرفي “الحرب الثقافية” الأمريكية.

لكن مجرّد اعتماد هذه الآراء المتطرفة ونشرها هكذا لا يكفي، على المتابع الخارجيّ أن يعتقد فعلاً أنّ هذه الآراء هي المسيطرة وأنّها الخيارات الوحيدة المتاحة أمامه، وهذا يكون عبر كتم الأصوات “العقلانية” التي تميل لاتّخاذ مواقف أكثر اتّزاناً.

وهذا يكون عبر أدواتٍ مختلفة يوظّفها مشغّلي الذباب الإلكترونيّ لكتم هذه الأصوات:

الإغراق – Spam المذكور سابقاً والذي قد يقود هذه الأصوات المتّزنة إلى الخروج من المنصات أو اتّخاذ مواقف أكثر تطرفاً او التزام الصمت – كلّها نتائج تصب في مصلحة مشغّلي الذباب الإلكترونيّ الذين يرغبون في إظهار القضيّة باستقطاب فائق بين الطرفين.

إضعاف الثقة – Discredit، وفيه يحاول مشغلي الذباب الإلكترونيّ إزالة المصداقية أو تسفيه آراء أو تشويه سمعة الأشخاص أصحاب الأصوات المتّزنة، وترى هذا في الطرف العربيّ من الشبكة عبر حملات التخوين والتكفير والتشكيك الجماعية بولاءات بعض المؤثرين، وقد يمتد هذا ليكون مستهدفاً لفكرةٍ ما لا لمؤثّر بعينه.

التخذيل الداخلي؛ كما المذكور في الفقرة السابقة، يلعب فيه شخصٌ يتبع لنفس مشغّل الذباب الإلكترونيّ دور الطرف المعاكس، ويستغلّ هذا في تقديم مواقف “متّزنة” مزيّفة، يمكن للمتطرفين من كل الأطراف الرد عليها وتفكيكها بسهولة فائقة؛ مما يعزز مواقفهم.

وبغضّ النظر عن هذه الأدوات، تعاني الأصوات المتزنة من مشاكل لا علاقة لها بهجمات الذباب الإلكترونيّ؛ بعضها “متوسّطٌ” بهدف التوسّط فحسب، دون حججٍ حقيقيةٍ أو بناءٍ سليم. وبعضها الآخر يحتاج لدراساتٍ طويلة لا تتسع لها نافذة انتباه المستخدم العاديّ لمنصّات السوشال ميديا.

أحد أسباب الاستقطاب الفائق المهمّة وهو سبب عائد لطبيعته أصلاً: أنّ الأفكار المتطرفة جذّابة وتقدّم للقارئ ذي نافذة الانتباه القليلة ما يكفيه من الإقناع والمشاعر ليعتنقها دون الحاجة لإنفاق الكثير من الوقت في تقليب الموضوع في رأسه.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *