بين الإستهلاكية والزهد، والتعلم من الكيس بدلاً من الثقافة المالية الحقيقية

لم أنشر في مدونتي هذه شيئاً جديداً منذ فترة طويلة – في الحقيقة لم أنشر مقالاً يتضمن “رأياً” منذ فترة طويلة، مقالي الأخير عن شبكات الجيل الخامس (المنشور في هذه المدونة اليوم) هو في الحقيقة أحد المقالات التي كتبتها لصالح سماعة قبل أشهر طويلة – ولم أوفق بنشرها في المدونة هناك لأسباب معينة. ربما كانت خطوة التوقف عن كتابة الآراء “بالمطلق” أمراً متوقعاً بعد صيامي عن تقديم الآراء “السياسية والاجتماعية” في السنوات السابقة… وربما كانت نتيجة للانشغال في الحياة الجامعية والعمل على المشاريع الأخرى كأفدني أو الفيديوهات المقالية التي أخطط لنشرها في الأشهر القادمة.

ما أريده عادة من مقالات الرأي التي أكتبها ليس “التصفيق والمشاركة”… هناك الكثير من الCircle Jerking في العالم ولا داعي لأكون جزءً من دائرة أخرى… ولا أحاول أيضاً تقديم إجابات أو حقائق مطلقة، أو حتى حلول أو أفكار مترابطة، بل مجرد دفعات صغيرة لتحريك النقاش، أيّ كان الموضوع وأياً كان النقاش… فالفائدة الأكبر تكمن في ذاك الجانب.

بأي حال، أحد النقاشات التي دارت في درس “القيم والأخلاق” في الجامعة – والذي بالمناسبة لا داعي لوجوده في السنة الثالثة من منهج في كلية الهندسة، إلى جانب مادة “أخلاق المهنة” التي من المفترض أن تتحدث بشكل أو بآخر عن نفس المواضيع – الدرس الذي تحول من خطبة الجمعة 2.0 في أسابيعه الأولى المملة إلى ساحة حقيقية للنقاش في الأسابيع الأخيرة… هذا النقاش الذي دار عن شخص أسترالي، أصيب بالسرطان، وقرر أن يجد إشباعه الروحي من خلال التخلي عن الماديات والزهد بالحياة والانتقال لجمع الأموال لفتح المساجد والمدارس في دول أفريقيا الفقيرة.

بين الموسيقى التصويرية الدينية التي تحاول التأثير بالمتابع، الشاب الذي يحاول فعل الخير في آخر لحظات حياته، البكاء والشيخ الذي يسأل الشاب أسئلة مثل “كم سعر هذه الساعة، كم سعر هذه السيارة” محاولاً تأكيد الفكرة – المؤكدة سلفاً – أن هذا الشاب ميسور الحال… بين كل هذا، وبين التعاطف الحقيقي مع الشاب الذي بحث عن السعادة بالطريقة التي يريدها وردود الأفعال من الطلاب والمعلم… جذب انتباهي أمر مختلف تماماً.

المشكلة ليست في الشاب، فهو يبحث عن الراحة الروحية في آخر حياته، ومن الجيد أنه عثر عليها في قيمة مضافة لبشر آخرون يعيشون على النصف الآخر من الكوكب. وبالطبع ليست في أفريقيا التي تحتاج كل لحظة من المساعدة التي يمكننا تقديمها على الرغم من أن الجهد كلها سيذهب سدى.

المشكلة بنظري كانت الاعتماد على متناقضين كلّ منهما على الطرف الأقصى من المقياس… وربما جزء كبير من هذه المشكلة كانت بالطريقة التي أنتج فيها الوثائقي إن صحت تسميته بهذا الاسم. ولكن لنترك مشكلتي مع تجييش العواطف واستغلالها في “إيصال الرسائل الدينية” جانباً، فهي بحاجة للمزيد من الوقت للشرح.

لنتحدث عن المتناقضين في الصورة، قمة الاستهلاكية وقمة الزهد.

الاستهلاكية

هي الترجمة العربية للمصطلح الانجليزي، Consumerism، يعبر هذا المصطلح عن التوجه الاجتماعي-الاقتصادي الذي يحث الناس على استهلاك البضائع بشكل متزايد دون الحث على الإنتاج، على سبيل المثال، شركات مثل آبل تقوم بصناعة أجهزة مخصصة للعيش لفترات قصيرة، كي يجبر المستخدم على إستهلاك المزيد من المنتجات… وبهذا يمكن للشركة بيع المزيد من المنتجات وتحقيق المزيد من الأرباح دون الحاجة للانتظار فترات طويلة.

سبب ظهور هذا النوع من الممارسات الاجتماعية-الاقتصادية في البداية هو حاجة الشركات في الفترات اللاحقة للثورة الصناعية الأوروبية إلى التخلص من كمية البضائع الضخمة التي تنتجها، على سبيل المثال، المصنع القادر على تصنيع مئات سكاكين المطبخ في الثانية، لم يكن قادراً على بيعها جميعها بسبب انخفاض الطلب – فسكاكين المطبخ ليست أمراً تشتريها كل يوم، بالأخص في عصر كانت مفاهيم الحدادة اليدوية وسنّ النصول فيه موجودة وشائعة…

لذا لدفع المستهلكين إلى شراء المزيد من السكاكين، صنعتها الشركات كي تتلف في فترات أقصر دون إمكانية الإصلاح، مما جعل الكمية المنتجة تستهلك بسرعة أكبر.

بأي حال، مفهوم “انتهاء الصلاحية” لم يكن الدافع الوحيد لنشر الثقافة الاستهلاكية، لا يمكنك إقناع الناس بالتخلي عن رغبتهم في إصلاح الأغراض فقط لهذا السبب، لذا كانت الحركة لتحويل الكثير من المنتجات إلى منتجات “بريستيجية” من خلال الإعلانات جزءً مهماً من نشر ثقافة الاستهلاكية.

إن كان “انتهاء الصلاحية” هو الوزير الفاسد، المخطط من وراء الستار لدفع الاستهلاكية، فالإعلانات هي الأمير الساحر على حصانه الأبيض، الذي جمّل الاستهلاكية بأعين الناس ليحرف أنظارهم عن شنائع ذاك الوزير.

الزهد

الزهد أحد المصطلحات المتأصلة في اللغة العربية وفي الثقافة الشرق أوسطية والاسلامية. ستجد إشارات لهذه الكلمة في الشعر الجاهلي، الشعر الاسلامي، وفي أدبيات الحضارات المجاورة كالفارسية والتركية (والتي ربما تأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر بالحضارة العربية والاسلامية).

ينظر للزهد في الأدبيات الدينية عادة على أنه فضيلة، على أن الزاهد شخص “أقرب إلى الله” لتخليه عن متاع الدنيا وعمله نحو الآخرة، وعلى عكس الفقر أو قلة الحيلة التي ينظر لها في الأدبيات القديمة على أنها “ضعف” أو “رذيلة” حتى في بعض الأحيان، الزهد؛ أي امتلاك الشيء والتخلي عنه، امتلك مرتبة عالية بين الفضائل.

وبينما لا يزال الزهد في العالم العربي والاسلامي والثقافات المجاورة محتفظاً بمكانته كفضيلة، في أماكن أخرى من العالم كان الأمر مختلفاً قليلاً، فمن كون الزهد ثقافة يمتلكها المحاربون والرياضيون الإغريق إلى كونها ثقافة شائعة بين الرهبان المسيحيّين من ظهور المسيحية وحتى بداية الحداثة في أوروبا، إلى أن ابتعدت عنه الكنيسة الكاثوليكية او عن شكله السابق على الأقل في سنوات بداية الحداثة.

يترافق الزهد في الثقافات المرتبطة بالدين عادة مع الصلاة والصيام والتعبد والانعزال والتأمل. وعلى الرغم من وجود ربط لدى الكثيرين، وحتى لديّ سابقاً، بين الهيبيز والزاهدين، بسبب الطريقة التي يقدم بها الهيبيز أو الهيبسترز أنفسهم، إلا أنهما ثقافتان مختلفتان تماماً. أجل هناك بعض الجوانب من ثقافة الهيبيز التي تتأصل في ثقافة الزهد المسيحيّة، إلا أنها مختلفة تماماً من ناحية النتائج. الراهب المسيحي يرغب بإنقاذ رعاياه، بينما الهيبي يحاول تقبلهم على ما هم عليه. الراهب المسيحي يتخلى عن شهواته مقابل الوصول لحالة روحانية أعلى، بينما يعتنق الهيبي بعضها ويترك بعضها في محاولة الوصول للسعادة الذاتية دون إلحاق الأذى بالغير.

بالطبع، ثقافة الهيبيز او الهيبسترز تغيرت كثيراً اليوم مقارنة بسنوات بداياتها، وحتى النظرة المسيحية للزهد والنظرة الانسانية للهيبسترز اختلفت بشكل أو بآخر، إلا أنها دليل جيد لاختلافهما.

الزهد بذاته لا يمتلك “صفات معينة” صالحة لكل زمان ومكان، فزاهد اليوم ربما يعيش حياة أفضل من أغنياء البارحة. مجرد وجودك حياً اليوم يعني أنك أفضل حالاً من أي شخص مهما كان وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي في أوروبا عند انتشار الطاعون، أو في الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال.

نعود للمقارنة

المشكلة الأكبر في الحديث عن الزهد أو الاستهلاكية لا تكمن في مفهوم الزهد بذاته، ولا حتى في مفهوم الاستهلاكية بذاته، من المفترض أننا نعيش في زمان فيه ما يكفي من الحرية ليتمكن الشخص من امتلاك قراره الذاتي ليختار إن كان سيترك ممتلكاته ويبدأ حفر الآبار في أفريقيا أم سيشتري خمس أجهزة آيفون ليلعب عليها ألعابه المفضلة.

المشكلة تكمن في كمية المعلومات التي توفرها لمن تقدم له هذين الخيارين.

على سبيل المثال، لنفترض وجود شركتي هواتف محمولة فقط في السوق، الأولى تروج منتجاتها على أنها الرفاهية المطلقة التي على الفرد شراء الجديد منها كل عام، ليحافظ على البريستيج، تظهر الشركة حياة من يستخدمون هذه الهواتف على أنها الأفضل دون منازع. الشركة الثانية في الكفة الأخرى تقوم بترويج هواتفها الرخيصة جداً، التي تقوم بعملها فقط، والتي لا تمتلك شكلاً جذاباً، على أنها الخيار الأكثر أخلاقية، وتحاول إقناع المستهلك أن هذه الهواتف ستنقذ البيئة لاستخدام مواد قابلة لإعادة التصنيع ولأن العمالة التي تقوم بتصنيع هذه الهواتف لا تتضمن مئات الأطفال الصينيين المحصورين في معمل خالٍ من الأوكسجين في أحد خطوط الانتاج.

ولنفترض جدلاً أن المعلومات الوحيدة والخيارات الوحيدة التي يمتلكها المستخدمون عن الهواتف المحمولة موجودة لهتين الشركتين، وكل منهما تقول أن الخيار الأفضل هو جهازها الخاص… ألا يبدو هذا غير عادل قليلاً بحق المستخدمين؟

ما يحدث الآن، وبالأخص في الفيديو الذي تحدثت عنه سابقاً، وفي الكثير من المحاضرات والدروس الوعظية، وفي الكثير من الإعلانات والمنشورات الترويجية، أن الفرد لا يمتلك خيارات أخرى – أو للدقة، أن الخيارات الأخرى وهي كثيرة جداً، لا تقدم بالطريقة المذهلة ذاتها التي يقدم بها الزهد أو تقدم بها الاستهلاكية.

لا تسمع أحداً يتحدث عن الفوائد التي يمكنك الحصول عليها اليوم بسبب وجود التصنيع بكميات كبيرة، وكيف يمكنك الاستفادة منها دون الحض على احراق الأموال عاماً بعد عام دون فائدة، ولا حتى في المدارس التي يفترض بها أن تنشئ جيلاً واعياً مادياً. ولا تسمع أحداً على المنابر الوعظية يتحدث عن الثقافة المالية بطريقة واقعية دون أن يحض الناس على الزهد بالحياة الدنيا وترك المتع فقط هكذا دون خيارات أخرى.

المضحك -أو المحزن، بحسب نظرتك للامر- أن النسبة الأكبر من السكان هم في الحقيقة ضمن الفئة التي لا يمكن أن تكون زاهدة لأنها لا تمتلك ما يكفي من الماديات أصلاً لتزهد بها، ولا يصح أن تبقى ضمن دائرة الاستهلاك أو أن تقع ضمن دائرة الاستهلاك لأنها لا تمتلك ما يكفي للبقاء على قيد الحياة ومتابعة شراء أحدث الاجهزة في نفس الوقت.

السكوت عن هذه الخيارات الذي يجعل نسبة ضخمة من السكان تعتمد على الاستدانة من البنوك لشراء الرفاهيات كأجهزة التلفزيون أو الهواتف المحمولة الفارهة والنسبة الأخرى تتحول إلى عالة على المجتمع، أو في أحسن الأحوال أفراداً منعدمي التأثير عليه.

وبين تسديد فواتير القروض الائتمانية والغرق في العمل لسنوات إضافية دون سبب وبين التأمل في الشمس لأشهر عديدة بدلاً من العثور على عمل، ستجد أن من صمم الفيديو في الأعلى، ومن صمم هذا الفيديو، هم أشخاص لا يقومون لا بالفعل الأول ولا الثاني في الحقيقة.

تعليق واحد

  1. مقال جميل.. يجب إتاحة المزيد من الخيارات بدلا من الثنائيات المجحفة.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *