الفصل الثاني: الرومانتيكيّة – Romanticism

قد يكون موضوع الرومانتيكيّة الرقميّة أحد أكثر المواضيع التي تطرّقت لها جانبياً في مقالاتي السابقة حول الثقافة الرقميّة، ولا عجب، فهو موضوع قديم جديد باقٍ على الشبكة ما دامت، وهو مرتبط جذرياً بكثير من الظواهر الشائعة عليها ويدفع الناس لصناعة جزء كبير من محتواها.

لهذا عليّ التنبيه، رغم أنّي سأحاول قدر الإمكان في هذه السلسلة النظر والتعامل مع هذا الموضوع بأكبر قدر من الحياديّة والموضوعيّة في التعريف والتوصيف، وسأبني حجّة له وعليه بالتوازي، فإنّ نظرتي نحوه ما تزال كما هي منذ سنوات طويلة: هذا النوع من المحتوى لا يستهويني، ولا أستسيغه إطلاقاً.

تعريف الرومانتيكيّة الرقميّة

لفهم ما أقصده بالرومانتيكيّة المنتشرة على الشبكة اليوم، عليّ الحديث عن ثلاث محاور أساسيّة تشكّل أعمدة الأساس لهذا التوجه الرقميّ، وتمتلك تأثيراً قوياً عليه:

أولاً: الرومانسيّة الفنّية – Romanticism

يطول الحديث عن تاريخ الرومانسيّة الفنّية وصفاتها، لذا سأكتفي في هذا السياق بالحديث عن تعريفها العام، وما يلزم فهمه حولها للانتقال إلى نقاطي الأخرى، لذا إن أردت الاستزادة، هذه بعض المصادر النافعة حول هذا التوجه الفنّي.

بدايةً، تختلف الرومانسية الفنّية عن الرومانسيّة التي نعرفها جميعاً في الأعمال الفنّية القصصية كالأفلام والمسلسلات والروايات وغيرها، فالرومانسيّة التي تحضر في البال عند ذكر ذاك السياق، هي الرومانسية في العلاقة بين شخصين، لا الرومانسيّة بتعريفها الفنّي.

تضع الكثير من التعاريف الشائعة للرومانسيّة الفنّيّة ستّة محاور أساسيّة يبنى عليها هذا التوجه، بينها الاحتفاء بالطبيعة بحلوها ومرّها، والتركيز على التجربة الفردانيّة والروحانيّة، والتمجيد للعزلة والحزن، والاحتفاء بالإنسان العاديّ غير المميز، والتمجيد للمرأة، وتجسيد الأشياء والأغراض وإعطاؤها مشاعر وعواطف.

تجلّت هذه المحاور في كثير من اللوحات والقصائد والروايات التي صدرت في الفترة الرومانسية، بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وينظر إليها الكثير من المؤرّخون كردّ على التوجه العقلانيّ السائد في الأوساط الأدبيّة والفنيّة في تلك الفترة، بعد الثورة الفرنسيّة والثورة الصناعيّة.

من هذا التعريف للرومانسيّة، يمكنك رسم موازيات مع ما نراه في الرومانسيّة الرقميّة اليوم:

  • فالتمجيد للعزلة والحزن ما زال شائعاً في النصوص والعبارات الرنّانة التي تمجّدها.
  • والاحتفاء بالطبيعة مرافق للمنشورات الرومانسيّة على شكل صور مرفقة بتلك العبارات.
  • والتركيز على التجربة الفردانيّة والروحانيّة ما زال محورها.
  • وحتّى تجسيد الأشياء والنطق على لسانها ما زال شائعاً.

بالطبع، هذا لا يعني أنّ من ينشر هذه المنشورات يستقيها من الرومانسيّة الفنيّة وهو عارف لسماتها وتفاصيلها، ولكنّه يعني أنّ هذه السمات، كانت موجودةً قبل التفكير بوجود الشبكة حتّى، وهي جزء من التجربة البشريّة المشتركة عبر الزمان والمكان.

ثانياً: الرومانسيّة الشائعة – Mainstream Romance

على الكفّة الأولى، لا تزال الرومانسيّة الفنيّة بتعريفها التقليديّ موجودةً في النقاشات الأكاديميّة حول هذا الفنّ، وعلى الكفّة الثانية، أصبحت الرومانسيّة كلمة تحمل معنى العلاقات الحميميّة بين الشخصيّات، وأصبحت التصنيفات الفرعيّة للرومانسية، كالرومانسيّة الكوميديّة، والرومانسيّة الحركيّة، تعني ديناميكيّات مختلفة على هذه العلاقة.

هذا الاختلاف بين التعريفين، الأكاديميّ والشائع – Mainstream لا يعني أنّ أيًّا منهما يمتلك قيمةً أكبر من الآخر، ولكنّه يعني أنّ لأحدهما القدرة على التأثير على  رؤيتنا للمحتوى على الشبكة اليوم، فهي في كثير من نواحيها تحمل أجزاء من الثقافة الشائعة – خصوصاً الأمريكيّة.

لا تزال تحمل الرومانسيّة بتعريفها الشائع اليوم جزءاً من التعريف التقليديّ، فهي بالتأكيد لا تزال تركّز على التجربة الفردانيّة والروحانيّة، وهي أيضاً تمجّد المرأة، وفيها الكثير من تمجيد المعاناة والألم والعزلة.

ترى في الأفلام الرومانسيّة البطل المعذّب، والفتاة المثاليّة، والمعاناة التي يمرّان بها حتى يصلا للعلاقة المثاليّة، لكنّها تصوّر من زاوية جماليّة تبالغ في تمجيد هذه المعاناة وترغيب المتابعين فيها، وتحمل في كثير من الأحيان غرض تحقيق الأمنيات – Wish Fulfillment للمتابعين.

مجدداً تصل تأثيرات هذا الربط بين معاني الرومانسيّة الشائعة والرومانسيّة الفنيّة إلى الشبكة، وبالمقابل، مع ازدياد دور الشبكة والثقافة الرقمية في حياة الناس أصبح تأثيرها على الرومانسيّة الشائعة أكبر، لتظهر ديناميكيّات جديدة، كالفتى الهاكر والفتاة الرافضة للتقنية، والفتى الجيد – Nice Guy الجييك أو النيرد الذي يقع في حب الفتاة المشهورة.

في السياق الأول، أي في سياق تأثير الرومانسية على تصرفات مستخدمي الشبكة، نجد أعمال مثل Remember Me و The Notebook تمجد المعاناة وتربطها بالعلاقات العاطفية، وتجد جزءاً كبيراً من مستخدمي الشبكة الذي تأثروا بهذا النوع من القصص يميلون لنشر منشورات حزينة، تضعهم في نفس المساحة الفكرية للشخصيات الرئيسية من تلك الأعمال.

وفي السياق الثاني، أي في سياق تأثّر هذه الأعمال بتصرفات المستخدمين، تستقي تلك الأفلام أنماطاً شائعةً من مستخدمي الشبكة، خصوصاً أولئك الذين عاشوا مراهقتهم وشبابهم قبل أن يصبح التيك برو نمط شخصيّةٍ جذّابًا أو دالًّا على النجاح الماديّ.

من أشكال الرومانسيّة الشائعة التي أثرت على الشبكة أيضاً تلك القادمة من الموسيقى، كثقافة الأيمو – Emo، والتي سيطرت بشكل واضح على بدايات الألفيّة.

ثالثاً: الإنسان والآلة

لو نظرت للأمر من زاوية العلاقة بين الإنسان والآلة، ستجد الكثير من الصفات المتشابهة بين الظروف التي ولّدت الحركة الرومانسيّة الفنيّة في الماضي وبين ما يعيشه الناس اليوم من علاقةٍ بين الإنسان والآلة.

فكما كانت الرومانسية الفنية مهرباً للناس من الواقع الآليّ الجامد للثورة الصناعيّة حينها، تجد هذا التأثير واضحاً اليوم في الطريقة التي يتعامل بها مستخدمو الشبكة مع الرومانسيّة وربطها الفائق بالمشاعر والإنسانيّة ككل، لتصبح الرغبة المشتركة بين هؤلاء هي إثبات البشريّة إن صحّ التعبير.

يطول الحديث عن علاقة الإنسان مع الآلة في هذا العصر، وربما أخصص لهذا فقرات متفرّقة في فصول هذه السلسلة، لكنّ الرغبة بإثبات البشريّة واحدةٌ من أهمّ الرغبات التي يمتلكها المواطن الرقميّ اليوم على الشبكة، وتشكّل جزءاً كبيراً من ثقافته.

من نظرية الإنترنت الميّت – Dead Internet Theory التي تفترض أن النسبة الأكبر من المحتوى المنشور على الشبكة قادمٌ من الآلات والبرامج المؤتمتة، وحتّى انتشار مصطلحات مثل NPC – Bot لوصف الناس غير القادرين على تقديم أفكار أو مشاعر حقيقيّة في تواجدهم الرقميّ، ووصولاً في النهاية إلى التركيز الهائل على التعبير عن الذات والتفرّد القادم من الرغبة في إثبات الإنسانيّة.

هذه الرغبة في التمييز بين الإنسان والآلة تظهر في كثير من التفاعلات على الشبكة، سواء من الناحية التقنيّة على شكل عناصر تصميميّة وتوجّهات برمجيّة تحاول مجابهة “تلويث” محتوى المنصات المخصصة للتواصل البشري عبر إدخال الآلات إليها، أو من الناحية الاجتماعيّة، كرفض الكثير من المجتمعات لتطبيقات الذكاء الاصناعيّة أو الأتمتة أو تطويع التكنولوجيا في حلّ بعض المشاكل.

لذا لا عجب أن يرغب المواطن الرقميّ دوماً، وبأشكال عديدة، أن يظهر إنسانيّته وبشريّته، والرومانسيّة طريقٌ سهل لهذا. فالآلات لا تشعر.

ولهذا ترى التركيز في المنشورات الرقميّة الرومانسيّة منصبّاً على العاطفة والمشاعر، لدرجات قد تفصل الناشر عن الواقع وتدفعه أكثر نحو الرومانسيّة الفنّية القديمة.

عودةً لتعريف الرومانتيكيّة الرقميّة

اعتماداً على منابع التأثير المذكورة آنفاً، يمكن تعريف الرومانتيكيّة الرقميّة بكونها أسلوباً يقدّم المواطن الرقميّ فيه نفسه عبر إظهار مشاعره، سواء عبر التعبير الحرّ عن الذات، أو تمجيد الألم والمعاناة، أو إثبات الذات الإنسانيّة عبر العاطفة.

يستغلّ البعض الرومانسيّة في الوصول لمآرب مختلفة وترتبط بأذهان الناس بمفاهيم متعددة، كاعتقاد البعض أنّ المشاركات الرومانسيّة على الشبكة قد تقود إلى شرارة عاطفيّة كما في الخيالات القصصية.

نظرة على الرومانتيكيّة وتفاسير لها

حاولت قدر الإمكان تقديم تعريفاتي السابقة عن الرومانتيكيّة بشكل حياديّ رغم انحيازي المسبق، وسأحاول هنا أيضاً تجنّب الانحياز، وأبدأ هذا بقولي -المعتاد ربّما لكثير من قرّاء محتواي- أنّ الرومانتيكيّة بذاتها لا ضير منها، بل أجدها حتّى مفهوماً يجب على كلّ مواطنٍ رقميّ أن يألفه ويعرف كيف يمكن التعامل معه.

تجد الرومانتيكيّة في المحتوى الرقميّ وفي تفاعلات المواطنين الرقميّين بين بعضهم على أشكال عديدة، لكن يتميّز بينها برأيي خمس أنواع رئيسية تتداخل فيما بينها في كثير من الأحيان:

أولاً: اقتناص التعاطف

يمثل المحتوى المستهدف لاقتناص التعاطف نسبة لا بأس بها من المحتوى الرومانتيكي خصوصاً في المجموعات الرقميّة المغلقة والمجتمعات القديمة، وهذا بسبب المعرفة الشخصية بين أفراد هذا التجمّع، ويكثر هذا النوع من المنشورات في التجمعات الأكثر انفتاحاً عاطفياً، كتجمّعات المراهقين والشباب، وقد يكون طريقة لاستجرار العلاقات العاطفيّة والحميميّة.

يتميّز هذا النوع من المنشورات برأيي بكونه يركّز على جماليّة المعاناة لا المعاناة ذاتها، ورغم أنّه يتوقع من بقيّة متلقّي المنشور التعاطف معه، إلا أنّه يبقي على صورة إيجابيّة بالمجمل لصاحب المنشور نفسه.

لا يعني هذا أنّ كل المنشورات التي قد تقتنص تعاطف المواطنين الرقميّين قادمة من شخص يحاول فعل هذا، فالبعض -بصدق- يقدّم قصصه ومشاعره على الشبكة بصيغة مشابهة لهذا الأسلوب.

ثانياً: رسم الصورة الذاتيّة

كون الشبكة مجالاً يتيح لمستخدميه بالمجمل القدرة على مشاركة ما يريدونه من ذواتهم، ولكونها أيضاً تكسر حواجز عديدة لا يمكنهم تخطّيها في الواقع، بما يعرف بمفهوم تأثير انعدام التثبيط الرقميّ – Online Disinhibition Effect، هذا يجعلها -أي الشبكة- مكاناً يمكن للمستخدمين اختيار ما يريدونه وتحريره وتنظيمه وإعادة تشكيله قبل مشاركته لرسم صورةٍ معيّنةٍ عن شخصيّاتهم لبقيّة المستخدمين.

وهذا ليس بالأمر السيء بالمطلق، فما أكتبه هنا مرّ أيضاً بكثير من الفلاتر قبل أن يخرج مثلاً وحتّى مشاعري التي نادراً ما أشاركها على الشبكة تخرج بصورةٍ تضعني في أفضل ضوء، وكذلك ما تجده من منشورات رومانتيكيّة يحاول كتّابها مثلاً تقديم نظرةٍ أكثر عاطفيّة وشاعريّة عن أنفسهم وعن نظرتهم للحياة مما هي عليه في الواقع.

معياري لهذا، إن كان أسلوبك في الحديث عن العواطف في الواقع مختلفاً عن ذاك الذي تستخدمه في الشبكة، وكان أسلوبك على الشبكة أكثر رومانتيكيّة وعاطفيّة، فأنت تستخدم هذا الأسلوب لترسم صورةً معيّنة في أذهان الناس عنك. وهذا لا يعني أنّك تكذب أو تتلاعب بالآخرين، بل يعني فقط أنّك تتعامل مع الشبكة بحواجز مختلفة عن العالم الواقعيّ.

ثالثاً: جمع التفاعل ومطاردة الشهرة

عودة على الفصل السابق بخصوص مطاردة الشهرة، العاطفيّة والشاعريّة أسلوبان شائعان جدّاً في استثارة التفاعل من الجموع، سواء عبر إعادة تقديم مفاهيم متّفق عليها بصيغ أكثر عاطفيّةٍ وملامسة لحياة القرّاء، أو عبر تقديم أفكار مكررة في حجرة صدى ضمن سياقٍ عاطفيّ.

رابعاً: التأقلم مع المعاناة

في حالاتٍ نادرة، تجد الكثير من المنشورات التي يشارك فيها أصحاب المعاناة والألم معاناتهم مع القرّاء، وقد تكون هذه طريقتهم الخاصة في التأقلم مع هذا الألم. وهذا موجودٌ منذ الأزل، ففي مذكّرات الكتّاب والكثير من المصابين بالأمراض المزمنة تمثيل قبل-رقميّ لهذا.

خامساً: الرومانسيّة “الصادقة”

يستحيل واقعياً معرفة ما يدور في أنفس من يتصرّفون برومانتيكيّة زائدة، لذا يبقى احتمال الصدق في مشاعر هؤلاء موجوداً. شخصياً، أجد أنّ إثبات صدق المشاعر المقدّمة على الشبكة أمراً شبه مستحيل، إن كانت الحقائق يصعب إثباتها، فما بالك بالمشاعر.

أجد في احتمال الصدق طريقاً سهلاً لمن يجد نفسه مشككاً ومبالغاً في النظر بسلبيةٍ لما يجري على الشبكة، وهو أداةُ موازنةٍ ضروريّة كي لا يغرق أحدٌ بفخّ النقد المستمرّ لما يجري حوله.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *